عن الإغلاق وحزم التحفيز واللقاحات
حصاد 2020 .. "كوفيد-19": في أوائل فبراير الماضي، قررت مصر إجلاء مواطنيها من مدينة ووهان الصينية بؤرة تفشي وباء "كوفيد-19" الأولى. وبعد ذلك بنحو أسبوعين، أعلنت مصر اكتشاف أول حالة لشخص حامل للفيروس. ومقارنة بالدول الأخرى، إقليميا وعالميا، كانت التداعيات الاقتصادية للوباء محدودة إلى حد كبير. ويرجع ذلك إلى الإجراءات الوقائية الطبية والاقتصادية والمالية التي اتخذتها الحكومة مبكرا خلال الموجة الأولى، للحد من انتشار الجائحة، واحتواء تداعياتها الاقتصادية على المواطنين.
الإغلاق الكبير: بعد أن تجاوزت مصر حاجز المائة حالة يوميا قررت حكومة مصطفى مدبولي في منتصف مارس منع التجمعات، وأمرت بإغلاق جميع المدارس والجامعات لمدة أسبوعين مبدئيا. وسرعان ما قررت تعليق الرحلات الجوية الدولية من وإلى البلاد لمدة أسبوعين، ومنحت المواطنين بالخارج نحو 60 ساعة للعودة إلى البلاد من جميع أرجاء العالم. وأمضت الحكومة الأسابيع التالية في محاولة جلب المواطنين العالقين بالخارج.
ثم جاء الحظر: قررت الحكومة في 24 مارس فرض حظر للتجوال لمدة 11 ساعة يوميا، مع الإغلاق الكامل لمعظم الأنشطة غير الأساسية، والسماح للمحال التجارية للعمل في ساعات محددة خلال النهار، وللمطاعم للعمل فقط في توصيل الطلبات. واستمر الحظر مع تخفيفه لاحقا حتى تم إلغاؤه في أواخر يونيو. وبعدها بأيام قليلة في الأول من يوليو استأنفت مصر الرحلات الجوية الخارجية.
وفي وسط كل ذلك قررت مصر إطلاق مجموعة من حزم التحفيز المالية والنقدية. تحرك البنك المركزي المصري سريعا لحماية الاقتصاد من تأثيرات "كوفيد-19"، وقرر خفض أسعار الفائدة بواقع 300 نقطة أساس في 16 مارس، وأعلن تمديد أجل جميع القروض المصرفية لمدة 6 أشهر. وأتبع البنك المركزي ذلك بخفضين آخرين بواقع 50 نقطة أساس في كل مرة خلال شهري سبتمبر ونوفمبر، ليصل بذلك إجمالي الخفض خلال 2020 إلى 400 نقطة أساس. وكان السبب الرئيسي وراء خفض أسعار الفائدة هو استمرار دعم النشاط الاقتصادي خاصة وأن التضخم ظل محدودا بفضل مستويات الإنفاق الاستهلاكي المنخفضة. وكذلك خفض البنك أسعار الفائدة على مبادراته التمويلية لقطاعات الصناعة والعقارات والسياحة إلى 8% بدلا من 10%.
خفض الفائدة في نوفمبر كان أيضا بهدف تحفيز القطاع الخاص للاقتراض الرأسمالي مع اقترابنا من 2021، خاصة بعد سنوات جمدت فيها الشركات إنفاقها الرأسمالي لحين انخفاض أسعار الفائدة لمستويات ما قبل التعويم. والآن، تقول نحو 87% من الشركات في مصر إنها تخطط لزيادة استثمارتها في 2021، وفقا لاستطلاع أجراه بنك إتش إس بي سي.
وبشكل منفصل أطلق البنك المركزي مبادرة أخرى للتيسير على الأفراد غير المنتظمين في السداد والذين تقل مديونياتهم عن مليون جنيه (دون أرصدة البطاقات الائتمانية والعوائد المهمشة). وبالمثل أمرت هيئة الرقابة المالية بمنح عملاء شركات التمويل العقاري والتأجير التمويلي والتخصيم الخاضعة لها مهلة 6 أشهر لسداد مستحقاتهم الائتمانية وإعفائهم من أي غرامات تأخير.
واتخذ البنك المركزي إجراءات أخرى لتسهيل حركة الأموال وتعزيز المعاملات الرقمية في وقت الوباء: ألغى البنك المركزي الرسوم والعمولات المطبقة على رسوم نقاط البيع والسحب من الصرافات الإلكترونية والمحافظ الإلكترونية لمدة 6 أشهر انتهت في سبتمبر، وجرى مد فترة الإعفاء من رسوم عمليات السحب من الصرافات الآلية حتى نهاية العام الحالي 2020. وكذلك إعفاء التحويلات المحلية بالجنيه المصري من جميع العمولات والمصروفات حتى نهاية 2020. وإصدار البطاقات المدفوعة مقدما والمحافظ الإلكترونية مجانا حتى نهاية 2020، وتسجيل اشتراك الإنترنت البنكي لعملاء البنوك الحاليين باستخدام بياناتهم الحالية.
وكذلك تحركت الحكومة سريعا بمجموعة من الإجراءات المالية للمساعدة في دعم الاقتصاد وأسواق المال، بما في ذلك خفض الضرائب على معاملات البورصة، وتأجيل سداد الضريبة العقارية المستحقة على المصانع والمنشآت السياحية لمدة 3 أشهر، مع السماح لها بسداد الضريبة المستحقة على عن الفترات السابقة من خلال أقساط شهرية لمدة 6 أشهر. واستمر هذا التأجيل بعد ذلك حتى نهاية 2020، ثم جرى تمديده مرة أخرى الأسبوع الماضي حتى نهاية أبريل المقبل، إلى جانب تحصيل رسوم استهلاك الكهرباء والمياه والغاز للشركات والمنشآت السياحية والفندقية.
وبعد أيام قليلة من جولة الحوافز الحكومية الأولى أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن حزمة تحفيز وإنقاذ مالي بقيمة 100 مليار جنيه، شملت وقف تطبيق قانون ضريبة الأطيان الزراعية لعامين آخرين، وتوجيه 50 مليار جنيه لمبادرة تمويل قطاع السياحة، وتنفيذ قرار صرف "العلاوات الخمس" لأصحاب المعاشات بتكلفة 27.6 مليار جنيه، وإقرار العلاوة الدورية لأصحاب المعاشات بنسبة 14%، وتخصيص 20 مليار جنيه من البنك المركزي لدعم البورصة المصرية، وقال مسؤول بارز بالبنك المركزي لإنتربرايز حينها إن البنك سيشتري أسهم من البورصة مباشرة لدعم الأسعار ومنع تقلبات السوق التي أحدثتها الجائحة. والتقطت الشركات أنفاسها بعد قرار تقسيط ضريبة الإقرارات الضريبية على تلك الشركات والمنشآت على 3 أقساط انتهت في 30 يونيو، ومد الموعد النهائي لتقديم الإقرارات الضريبية للأشخاص الطبيعيين مرتين من 31 مارس حتى 30 أبريل، وتأجيل سداد وتقسيط الضريبة العقارية على تلك الشركات والمنشآت لمدة 3 أشهر، مع عدم احتساب أي غرامات أو فوائد تأخير على المبالغ المؤجلة أو المقسطة خلال تلك الفترة.
وقد نشهد المزيد من حزم التحفيز في الفترة المقبلة: قال وزير المالية محمد معيط الشهر الماضي إن الحكومة مستعدة لإصدار حزمة تحفيز جديدة إذا لزم الأمر، خاصة مع تصاعد الموجة الثانية من الوباء، لكنه أبدى تفاؤله حينها حيال توافر اللقاحات، والتي من شأنها إسراع عملية التعافي الاقتصادي.
حزمة التحفيز وإنهاء الحظر وقرارات الإغلاق ساعدت القطاع الخاص ليعود إلى منطقة النمو مجددا في سبتمبر الماضي، مع تعافي طلب المستهلكين ونمو النشاط التجاري. واستمر نمو نشاط القطاع الخاص غير النفطي خلال شهري أكتوبر ونوفمبر أيضا حسبما أظهر مؤشر مديري المشتريات، وإن كان قد سجل وتيرة نمو أبطأ في نوفمبر، وسط المخاوف بتصاعد الموجة الثانية من الجائحة، والتي أثرت على تفاؤل الشركات بشأن الـ 12 شهرا المقبلة.
ثم جاءت موجة اللقاحات: العلماء وشركات الأدوية حول العالم سارعوا لتطوير لقاح للوقاية من فيروس "كوفيد-19" في وقت قياسي، وحصلوا على موافقات طارئة من الجهات التنظيمية المختلفة للإسراع بطرح اللقاح في ظل تصاعد الموجة الثانية من الجائحة في مختلف أنحاء العالم. وقبل أسبوعين فقط، كانت بريطانيا أول دولة غربية تطلق برنامجا وطنيا لتطعيم سكانها باستخدام لقاح فايزر-بيونتك، مع إعطاء الأولوية لكبار السن من نزلاء دور رعاية المسنين، ومقدمي الرعاية لهم، ثم بعض العاملين في الأطقم الطبية لعلاج "كوفيد-19"، ثم السكان فوق سن الثمانين، قبل الانتقال إلى الفئات الأقل خطورة. وبدأت مصر بتأمين احتياجاتها من اللقاحات من عدة مصادر، منها لقاح سينوفارم الصيني الذي حصلت بالفعل على شحنات منه، وأسترازينيكا الأوروبي، وفايزر الأمريكي. وكانت مصر قد أنهت مشاركتها في مرحلة التجارب السريرية للقاح سينوفارم الصيني الشهر الماضي.
حسنا، ماذا نتوقع في 2021؟
اللقاحات: من المنتظر أن تبدأ مصر برنامج التطعيم خلال الأيام القليلة المقبلة بلقاح سينوفارم الصيني. وكان المتحدث باسم مجلس الوزراء نادر سعد قد أوضح أمس أن الحكومة لا تزال تنتظر اكتمال وصول 500 ألف جرعة من اللقاح الصيني، وهو ما تأخر لأسباب لوجستية تتعلق بالجانب الصيني، إذ تنتظر الحكومة الصينية تحديد حصتها الوطنية من اللقاحات قبل بدء خطة التوزيع الخارجي. وفي الوقت نفسه تتفاوض مصر مع كل من شركة أسترازينيكا البريطانية، وفايزر الأمريكية لتدبير جزء من احتياجات البلاد من اللقاحات. وسارعت مصر للتفاوض مباشرة مع الشركات، خاصة وأن اللقاحات التي من المنتظر أن تحصل عليها من تحالف "جافي" و"كوفاكس" والتي ستغطي 20% من احتياجات البلاد لن تصل قبل مايو 2021. وبمجرد بدء برنامج التطعيم، ستكون الأولوية للأطقم الطبية في مستشفيات العزل والصدر والحميات، ثم كبار السن من أصحاب الأمراض المزمنة. ومن غير الواضح حتى الآن متى ستؤمن مصر احتياجاتها بالكامل من اللقاح وتقوم بتطعيم الفئات الأخرى من المواطنين. وفي الوقت نفسه تجري مصر مفاوضات لتصنيع اللقاح محليا، مع خطة لتصديره بمجرد تلبية الاحتياجات المحلية.
التعافي الاقتصادي: مع بدء برنامج التطعيم على نطاق واسع، من المتوقع أن يسجل الاقتصاد العالمي نموا بنحو 2-3% إذا ثبتت فعالية اللقاحات بنسبة 85-95%، ولكن معدلات النمو تلك بين القطاعات بعضها البعض (قطاع السياحة في مقابل قطاع التكنولوجيا المالية على سبيل المثال)، وكذا بين البلدان التي عانت أو استفادت من الوباء، حسبما يرى المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي محمود محيي الدين. وحتى قبل اللقاحات، كان من المتوقع أن تكون مصر الدولة الوحيدة بالمنطقة التي تحقق نموا اقتصاديا خلال العام المالي 2021/2020. وقدر البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية نمو الاقتصاد المصري في عام 2021 بنحو 5%، توقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد المصري بنحو 2.8% في عام 2021، في حين حدد بنك الاستثمار رينيسانس كابيتال الاستثمار المتوقع بمصر بنحو 2.8% خلال 2021، يليه تسارع النمو إلى 5% في 2022.
وأشارت كل هذه المؤسسات إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري المستمر منذ سنوات، كركيزة أساسية ساعدت مصر في مواجهة الجائحة على أقدام ثابتة، وهي ما يدعم التوقعات بتعافي الاقتصاد سريعا على المدى القصير والمتوسط. ويتوقع البنك الدولي أن يعود الاقتصاد المصري إلى معدلات ما قبل الجائحة بحلول العام المالي 2022/2021، فيما ترى فيتش سوليوشنز أن مصر على الطريق لتحقيق معدل نمو بمتوسط 4% سنويا على مدى السنوات الأربع المقبلة.