مع توالي التحذيرات بأن الاقتصاد العالمي يتجه نحو أكبر ركود في العصر الحديث، جرى استثناء مصر على نطاق واسع من بين قائمة كبيرة من الدول التي يرجح صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى أن اقتصاداتها ستنكمش خلال العام الجاري. وجاءت توقعات البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في نفس السياق، إذ توقع في أحدث تقرير عن "الآفاق الاقتصادية للمنطقة" إن يحقق الاقتصاد نموا خلال العام الجاري وأن يفوق أداء الاقتصاد المصري أفضل من كل دول المنطقة خلال العام، مع تحقيق ثاني أفضل نمو بعد لبنان خلال العام المقبل.
تحدثنا مع هايكه هارمجارت، المديرة التنفيذية لمنطقة جنوب وشرق البحر المتوسط في البنك الأوروبي، لمناقشة الاقتصاد المصري ما بعد الجائحة وما يمكن أن يفعله صناع السياسات لتحفيز النمو، وما هي الخطط الاستثمارية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار في البلاد. وإليكم مقتطفات من الحوار:
إنتربرايز: ما الذي تعتقدين أنه يتعين على مصر القيام به للحفاظ على التوقعات الاقتصادية الإيجابية نسبيا للنمو، وما الذي ينبغي أن يحدث حتى نتجاوز التوقعات؟
هايكه هارمجارت: مصر ستتضرر بشدة من جائحة "كوفيد-19"، كما هو الحال في جميع البلدان التي نقيمها. ويعكس هذا حقا مدى الترابط في عالمنا. دخلت مصر أزمة الوباء من نقطة قوة، بعد تحقيق نمو اقتصادي مرتفع في 2019، وهي الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي لن تشهد ركودا خلال 2020. نعتقد أن مصر ستتعافى بقوة بعد ذلك في 2021. وتظهر هذه التوقعات نجاح إصلاحات الاقتصاد الكلي التي جرى تنفيذها بالفعل ومرونة الاقتصاد المصري.
الآن، يحتاج صانعو السياسات إلى التفكير في كيفية الوصول إلى أفضل سيناريو ممكن لنهاية الأزمة. لكن المشكلة تتمثل في أن جميع السيناريوهات مترابطة على المستوى العالمي، لذا فإن الأداء الاقتصادي لمصر أو أي دولة سيعتمد بشكل كبير على أداء بقية العالم، حتى لو طبقت الدولة أفضل إجراءات من جانبها.
على سبيل المثال، بعض السيناريوهات التي وضعناها تعتمد على افتراضات مختلفة للسياحة وهو قطاع حيوي جدا بالنسبة لمصر. بالطبع، انتعاش السياحة في ربيع 2021 سيكون أفضل بكثير من أن تنتعش في صيف أو خريف 2021، لكن تعافي السياحة يعتمد على عدد من العوامل العالمية، بما في ذلك كيفية تضمين اختبارات الفيروس ضمن إجراءات السفر، والسياسات التي وضعتها البلدان التي تأتي منها السياحة الوافدة إلى مصر. ومتى ستقرر تلك الدول إعادة فتح اقتصاداتها، وهل سيكون هناك اتفاقيات ثنائية أو عالمية لاستئناف السياحة؟ سيستغرق هذا القطاع وقتا حتى يتعافى، بغض النظر عن ذلك. لكن السياسة الرئيسية التي يجب اتباعها هي تطبيق معايير صحية فائقة في الفنادق والمواقع السياحية، والإشراف والمتابعة بشكل مكثف. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن لمصر القيام به بنفسها.
ومن الركائز الرئيسية الأخرى التي تساهم في الاقتصاد المصري والتي لسوء الحظ ليست تحت السيطرة هي التحويلات من العاملين بالخارج وإيرادات قناة السويس، وكلامها تضرر بشدة. نامل أن تعود حركة التجارة العالمية إلى نشاطها بقوة وحتى إذا تراجعت بعض سلاسل القيمة العالمية، ستبقى قناة السويس أحد أهم الطرق الملاحية على مستوى العالم. مصر في حاجة إلى التركيز حاليا على الاستمرار في ضمان قدرة المنظومة الصحية على التعامل مع الجانب الصحي من الأزمة. هناك دول اخرى تعاني بشدة، ويدفع التكلفة كل من المتضررين والأصحاء من السكان. لذلك أعتقد أن المفتاح هنا هو الاختبار والاختبار والاختبار وتتبع المخالطين، متبوعا بالعزل الصحي.
نعتقد أيضا أنه من الضروري التأكد من أن الاستثمار المحلي وكذلك الطلب المحلي يحتفظان بالقوة. لقد ضخ البنك المركزي المصري سيولة للبنوك لإقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كما أن استثمارات الحكومة في البنية التحتية الحيوية ستكون الأساس لانتعاش الاقتصاد بصورة أسرع وأكثر مرونة.
وفيما يتعلق بالجانب التشريعي، فإن أي شيء من شأنه أن يدعم القطاع الخاص سيكون مفيدا في تلك الأزمة. ستتطلب المرحلة الأولية من التعافي اعتمادا كبيرا على القطاع الخاص، لذلك من المهم في هذا التوقيت التأكد من مرونة القطاع وقدرته على الابتكار. هذا ليس الوقت المناسب للإفراط في التنظيم والرقابة أو تعقيد عملية الترخيص، هذه فرصة ذهبية للحد من البيروقراطية وضمان الحفاظ على الاستثمار المحلي في هذه الأوقات الصعبة. وهذا لا ينطبق على مصر وحدها، إنها ظاهرة عالمية ويجب على كل الدول النظر في طرق تبسيط ممارسة الأعمال.
أحد الطرق للقيام بذلك هو تعزيز رقمنة الأعمال التجارية. هذه فرصة كبيرة لمصر لا يجب أن تضيعها. ويمكن الاستعانة بالعديد من الشركات الناشئة محليا للمساعدة في هذا التحول. هناك اتجاه صاعد بقوة في هذا المجال، وستكون خسارة كبيرة للغاية إذا خرجنا من الأزمة بنفس القدر من البيروقراطية.
إنتربرايز: ما هي السياسات أو الإصلاحات الأخرى التي تأملين أن تطبقها الحكومة لتحسين مناخ الأعمال في الوقت الحالي وفي المستقبل القريب؟
هايكه هارمجارت: هناك شيء قامت به مصر بشكل جيد للغاية في السابق وهو المضي قدما نحو التحول إلى الطاقة النظيفة. بدأت الاستثمارات في الطاقة الشمسية والمتجددة تؤتي ثمارها، وهذا هو الوقت المناسب لمواصلة التركيز على الابتكارات الخضراء، والتي ستكون أكثر مرونة من القطاعات الأخرى، وهو ما أثبتته أزمة الجائحة بالفعل. إذا نظرت إلى الصناديق التي تستثمر في الاقتصاد الأخضر، فقد كان أداؤها أفضل بكثير من منافسيها ذوي المحافظ الاستثمارية المتنوعة. في 2019، استثمر البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في مشروعين أساسيين في طاقة الرياح: 75 مليون يورو في مشروع شركة ليكيلا لطاقة الرياح، واستثمرنا 60 مليون دولار أخرى في شركة إنفينيتي.
هناك أيضا مجالا كبيرا لتحسين قدرات المناطق الاقتصادية مثل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، حيث يوجد الكثير من التعاون بين الشركات. مصر بالفعل في وضع جيد في هذا المجال وينبغي أن تواصل الاستثمارات.
وهناك أيضا مجال التكنولوجيا المالية. هناك مشهد نابض بالحيوية من مسرعات الأعمال، والاستثمار الجرئ في الشركات الناشئة، والشركات الناشئة التي تدعم التكنولوجيا، وقد دعمنا الكثير من الشركات المصرية الناشئة التي تركز على التكنولوجيا المالية، من خلال برنامجنا ستار لرأس المال المخاطر. هذه الكيانات تحتاج الدعم طوال الأزمة لضمان التعافي وأيضا لضمان مرونة الشركات.
إنتربرايز: وكيف غيرت جائحة "كوفيد-19" من توجه البنك الاستراتيجي للاستثمارات؟
هايكه هارمجارت: بشكل عام، غيرنا من توجهنا في كل دول عملياتنا بسبب الأزمة العالمية. بينما تستمر أعمالنا كما هو معتاد، وأعتقد أن أولوياتنا الاستراتيجية في مصر للمشروعات الخضراء والمتكاملة والشاملة ستظل كما هي، كانت هناك حاجة إلى استجابة طارئة للأزمة. وسارع مجلس إدارة البنك بالموافقة على حزمة تضامنية بقيمة مليار يورو مبدئيا، تبعها 4 مليار يورو أخرى لصالح 38 اقتصادا نقوم بالاستثمار بها. وستسمح الحزمة بالموافقة السريعة على التمويل لعملائنا الحاليين مع التركيز تحديدا على القطاع الخاص. وفي المرحلة الثانية نسعى بموافقة سريعا على التمويل لصالح البنية التحتية الحيوية.
إنتربرايز: وماذا يعني ذلك لمصر؟
هايكه هارمجارت: نسعى لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بشكل أكبر وهي العمود الفقري للاقتصاد المصري، وذلك لجعلها أكثر صلابة وقدرة على التعافي. ما تحتاجه تلك المشروعات خلال الفترة الحالية هو تمويل عاجل وبعضها زهيد جدا، من خلال الاقتراض من البنوك المحلية. وطلبت مننا البنوك في مصر سيولة إضافية من أجل إقراض الأطراف العاملة في الاقتصاد الحقيقي وخاصة صغار المصدرين. لذلك أقر البنك صرف 850 مليون دولار لدعم 5 بنوك مصرية هي بنك قطر الوطني مصر (كيو إن بي) والبنك الأهلي المصري والبنك الوطني الكويتي مصر والبنك التجاري الدولي وبنك مصر، من بينها 350 مليون دولار مخصصة للأنشطة التجارية. وكانت مصر إحدى أوائل الدول المستفيدة من الحزمة التمويلية التضامنية وإحدى أكبرها. وتم إقرار تلك القروض سريعا لأن البنوك المذكورة من عملائنا الحاليين.
وندرس كيفية دعم عملائنا الآخرين مثل الشركة القابضة للكهرباء في مشروعاتها الحيوية للبنية التحتية وكيفية دعم الاقتصاد الحقيقي. وهناك أيضا طلبات لدعم البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية للشركات الزراعية والقطاعات الأخرى مثل قطاع البناء الذي يعاني حاليا ويحتاج سيولة إضافية للحيلولة دون الإغلاق أو تسريح العمالة. ويظهر ذلك كيف تتغير الأمور، فبدأنا في التعامل مباشرة مع أطراف الاقتصاد الحقيقي دون التركيز على البنوك. وقد يستغرق الأمر وقتا لأننا لم نتعامل مع تلك الأطراف من قبل وعملية فحصها قد تطول، وعلى أي حال فهذا أمر نقوم بدراسته.
اضغط هنا لقراءة المقابلة كاملة