نظرة على إرث طارق عامر المصرفي
سيتشكل إرث طارق عامر في جزء منه بالطريقة التي سيتعامل بها من يخلفه مع التحديات التي ورثها عامر له، بما في ذلك سياسة سعر الصرف، وما إذا كان المستثمرون الأجانب سيعاودون ضخ أموالهم في أدوات الدين المصرية، وكيفية التعامل مع التضخم، من بين أمور أخرى. واتخذ عامر العديد من القرارات المثيرة للجدل، ولكن سيكون من أبرز القرارات التي اتخذها تعويم الجنيه في عام 2016، كما أنه أسهم بشكل كبير في تطبيق الشمول المالي على نحو أوسع، مما أدى إلى جيل جديد من الشركات الناشئة في مجال الخدمات المالية غير المصرفية.
إعادة ترتيب النظام المصرفي: انضم عامر لأول مرة إلى البنك المركزي المصري في عام 2003 كنائب للمحافظ الأسبق فاروق العقدة، بعد فترة قضاها في القطاع الخاص. وقاد العقدة وعامر عملية تحسين أوضاع النظام المصرفي، والتي كانت ضرورية عندما تزامنت فقاعة الديون في التسعينيات مع تداعيات مذبحة الأقصر في نوفمبر 1997، والتي أدت إلى تدهور السياحة والاقتصاد. وشهدت هذه العملية توحيد القيادة في القطاع، وفرض قواعد جديدة متعلقة بكفاية رأس المال ومتطلبات الجودة الائتمانية، وإعادة الرسملة، ووضع إطار تنظيمي عالمي في القطاع المصرفي (انتقد في بعض الأوساط على أنه يتجنب المخاطرة بشكل مفرط). بحلول الوقت الذي شارفت فيه العملية على نهايتها، انخفض عدد البنوك العاملة في مصر إلى 39 بنكا، أقل بنحو 17 بنكا عن عام 2003.
ترأس عامر البنك المركزي في عام 2015، بعدما قاد البنك الأهلي المصري من 2008 إلى 2013، من بين مناصب أخرى، في وقت كانت فيه سوق العملات الأجنبية في مصر في حالة من الفوضى. تولى عامر منصب محافظ المركزي خلفا لهشام رامز الذي شغل المنصب لمدة عامين من 2013 إلى 2015. كانت البلاد تعاني من شح الدولار وتثبيت سعر الصرف، مما أدى إلى نشاط السوق السوداء للعملة.
التعويم: بعد مرور عام على توليه المنصب، احتل عامر عناوين الصحف الدولية في نوفمبر 2016 عندما اتخذ البنك المركزي خطوة جريئة لتحرير سعر الصرف والسماح للجنيه المصري بالهبوط، كجزء من مجموعة أوسع من الإصلاحات الاقتصادية التي أعادت إحياء سوق الصرف وتداول العملة الأجنبية في البلاد. ومهدت تلك الخطوة الطريق لحصول مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. قال الصندوق آنذاك إن تعويم الجنيه وتخفيض قيمة العملة في عام 2016 كانت "خطوات حاسمة نحو استعادة الثقة في الاقتصاد والقضاء على نقص العملات الأجنبية".
العصر الذهبي للأموال الساخنة وتجارة الفائدة: خلال فترة عمله كمحافظ، أشرف عامر على دورة تشديد نقدي بدأت في عام 2017 وسط ارتفاع معدلات التضخم. وكان لدى مصر واحدة من أعلى معدلات الفائدة الحقيقية بين الأسواق الناشئة، وبدأت في جذب مليارات الدولارات في استثمارات الأموال الساخنة، وباتت الوجهة المفضلة لتجارة الفائدة.
فرض قيود على الاستيراد وتحجيم الطلب على الدولار: كانت إحدى خطوات سياسته الرئيسية الأخيرة كمحافظ للبنك المركزي هي تغيير قواعد الاستيراد، وإلزام المستوردين باستخدام الاعتمادات المستندية من البنوك ووقف العمل بمستندات التحصيل، بهدف تسهيل شراء البضائع من الخارج. وعلى الرغم من أن الرئاسة أعلنت لاحقا أن مدخلات الإنتاج والمواد الخام ستُعفى من القواعد، فإن المصادر في العديد من الصناعات التي تحدثنا إليها سابقا أشارت إلى أن استيراد المدخلات لا يزال يمثل تحديا أكبر بكثير مما كان عليه من قبل.
قاد عامر البنك المركزي ببراعة في الاستجابة لجائحة "كوفيد-19"، إذ تحرك بسرعة لحماية الاقتصاد من آثار الوباء، من خلال خفض سعر الفائدة بصورة استباقية بمقدار 300 نقطة أساس في مارس 2020، تلاه خفضان آخران، بمعدل 50 نقطة أساس للمرة الواحدة في سبتمبر ونوفمبر من ذلك العام، وبذلك وصل إجمالي الخفض في عام 2020 إلى 400 نقطة أساس. وأطلق البنك المركزي مبادرات لتخفيف الديون وتأجيل سداد أقساط الديون، إلى جانب حزمة تحفيز بقيمة 20 مليار جنيه لشراء الأسهم مباشرة في البورصة المصرية. عملت الإجراءات الأخرى التي اتخذها البنك المركزي المصري على تبسيط تدفق الأموال، بما في ذلك إلغاء الرسوم على جميع التحويلات بالجنيه المصري بين البنوك المحلية والسحب من أجهزة الصراف الآلي خارج الشبكة، وهو استمرار لمجهوداته لدفع الحكومة نحو التحول الرقمي والشمول المالي.
على صعيد تنظيم القطاع، لم تخل ولاية عامر من الجدل. في عام 2016، أصدر قرارا ينص على ألا تزيد مدة عمل الرؤساء التنفيذيين للبنوك العامة والخاصة في مصر عن تسع سنوات، سواء متصلة أو منفصلة – وهي خطوة أدت إلى رد فعل عنيف من مجتمع الأعمال. أُلغي القرار في النهاية بحكم قضائي، وحذف من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الجديد المعدل، والذي أقره مجلس النواب في عام 2020.
يمكن القول أنه ستظل هناك بصمة لعامر في مجال الشمول المالي في البلاد، إذ قام بدور هام في تعزيز ذلك الاتجاه الذي عزز نمو العديد من الشركات الناشئة (كشركات "خزنة" و"كاشات"، وغيرها) وشركات الخدمات المالية غير المصرفية. وكان لعامر وفريقه دور هام في تطبيق الشمول المالي في البلاد، ودمج جزء كبير من المواطنين في الاقتصاد الرسمي. وارتفع عدد المشاركين في المنظومة المصرفية الرسمية من 30% مع بداية فترة تولى عامر لمنصبه كمحافظ للبنك المركزي إلى أكثر من 56% بنهاية عام 2021، مما عزز الاستثمار في الشركات التي تقوم على الشمول المالي.