إنتربرايز تشرح: الركود التضخمي
ما هو الركود التضخمي وكيف قد يبدو في عشرينيات القرن الحالي؟ فاقمت الحرب الروسية الأوكرانية من تباطؤ تعافي الاقتصاد العالمي، إلى جانب إثارة اضطرابات في سلاسل التوريد. كلا الأزمتين يتعامل معهما العالم بالفعل منذ تفشي جائحة "كوفيد-19". تسجل الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء الآن أعلى معدلات تضخم لها منذ عقود، مع قفزة في أسعار السلع الأساسية عالميا. يؤثر هذا المزيج السام من الأزمات العالمية على مستويات الناتج العالمي، ويثير مخاوف من فترة ركود تضخمي تذكرنا بسبعينيات القرن الماضي.
تعريف الركود التضخمي: استخدم السياسي البريطاني إيان ماكليود مصطلح stagflation أو الركود التضخمي أول مرة في ستينيات القرن الماضي، عند وصفه الأزمات الموازية للتضخم والركود الاقتصادي خلال فترة الضغوطات الاقتصادية التي كانت تعيشها المملكة المتحدة. ومنذ ذلك الوقت، جرى استخدام المصطلح لوصف الفترات التي يرتفع فيها التضخم إلى مستويات غير مسبوقة بالتزامن مع تباطؤ النمو الاقتصادي. يأتي ذلك عادة مصحوبا بمعدلات بطالة مرتفعة وسياسات نقدية أكثر تشددا.
الشعور العام في فترات الركود التضخمي: بالنسبة لأصحاب الشركات، الركود التضخمي كابوس. الأسعار ترتفع والقوى الشرائية للمستهلكين تتضاءل، وانخفاض النمو الاقتصادي يؤدي إلى تراجع مستويات الثقة في الأعمال. الأمر على نفس القدر من السوء بالنسبة للمستهلكين الذين يواجهون ارتفاع تكاليف المعيشة بالتزامن مع تراجع الأمن الوظيفي.
ويضع الركود التضخمي صناع السياسات في موقف صعب: يتوفر القليل من أدوات السياسة النقدية لمعالجة الركود التضخمي. ورغم أن الحكمة التقليدية لمواجهة ارتفاع التضخم هو أن تتجه البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة، إلا أن تكاليف الاقتراض المرتفعة ستزيد من انخفاض طلب المستهلكين وتزيد من تكلفة إدارة الأعمال. ومن ناحية أخرى، تخفيف السياسات النقدية قد يهدد برفع الأسعار أكثر.
… خاصة عندما تكون مستويات الدين العالمي مرتفعة بالفعل:حذر نوريل روبيني، أستاذ الاقتصاد بكلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، أن "محافظي البنوك المركزية لا يمكنهم اتخاذ مسار تطبيع السياسة النقدية الآن قبل المخاطرة بحدوث انهيار مالي في أسواق الديون والأسهم"، مع ارتفاع مستويات الدين إلى مستويات قياسية حاليا، وفق ما نقلته فايننشال تايمز. وردد البنك الدولي أصداء تحذير مماثل في تقريره الآفاق الاقتصادية العالمية (بي دي إف) حيث ذكر أنه على عكس سبعينيات القرن الماضي، فإن الركود التضخمي سيحدث اليوم على خلفية "نقاط الضعف المالية المتصاعدة، من بينها أسعار الأصول التي تتعرض لضغوط ومستويات الدين المرتفعة التي قد تفاقم أي تباطؤ في النمو.
إلى أي حد ينبغي أن نقلق؟ باعتدال. آخر مرة شهد فيها الاقتصاد العالمي ركودا تضخميا، بدت الأمور مشابهة تشابها مخيفا لما هي عليه الآن. في سبعينيات القرن الماضي، أثارت قفزة في أسعار النفط الركود التضخمي بعد أن حظرت الدول العربية المصدرة للنفط صادراتها من الذهب الأسود إلى إسرائيل خلال حرب 6 أكتوبر 1973. بلغ التضخم معدلات ثنائية الرقم واستقر لما يقرب من عقد من الزمان. وواجهت الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الكثير من دول العالم، ركودا لمدة تزيد عن عام.
لكن هناك اختلافات ملحوظة بين الاقتصاد الآن وفترة السبعينيات: لا يتوقع معظم المحللين والخبراء الاقتصاديين بما فيهم البنك الدولي تكرار مشهد السبعينيات بالكامل. وهذه هي الأسباب التي تجعلنا أفضل حالا قليلا، وفقا للبنك الدولي والمحللين الذين تحدثوا إلى فايننشال تايمز وسي إن بي سي:
- التضخم وأسعار السلع الأساسية لم يرتفعا إلى المستوى نفسه الذي كانا عليه في تلك الفترة.
- الاعتماد على الوقود الأحفوري ليس كما كان في السبعينيات بسبب زيادة مصادر الطاقة المتجددة، ما قد يساعد في الحد من ارتفاع أسعار النفط.
- الدولار والميزانيات العمومية للمؤسسات المالية في وضع قوي بصورة عامة.
- توفر الحكومات دعما ماليا للفئات الأكثر تضررا من خلال إجراءات مثل منح الإعانات وبناء شبكات الأمان الاجتماعي التي تدعم الدخل الحقيقي.
- ستؤدي معدلات البطالة المرتفعة إلى تباطؤ التضخم، ما يلغي أحد بوادر أو مؤشرات الركود التضخمي (ارتفاع البطالة والتضخم اللذان يحدثان بالتوازي).
- لدى معظم البنوك المركزية الآن مهام واضحة بشأن استقرار الأسعار، وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، نجحت البنوك في تعزيز مصداقيتها عبر تحقيق مستهدفاتها من التضخم.
لكن معظم التوقعات تشير إلى أننا سنشهد نموا أبطأ (وتضخما متصاعدا) العام المقبل: خفض البنك الدولي من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي من 4.1% إلى 2.9% لعام 2022، على خلفية خطر حدوث ركود تضخمي. وعلى نحو مماثل، خفض صندوق النقد الدولي من توقعاته لـ 143 اقتصادا هذا العام، ما يمثل 86% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخرا تباطؤا "حادا" للنمو العالمي هذا العام، بعد أن خفضت توقعاتها من 4.5% إلى 3%. وقال البنك الدولي إنه من المتوقع أن ينخفض التضخم العالمي قليلا العام المقبل، لكنه سيظل أعلى من مستهدفات التضخم في العديد من الاقتصادات. وأضاف البنك أنه في حالة ظل التضخم مرتفعا، فإن عودة الركود التضخمي الذي شهده العالم في السابق قد يعني حدوث انكماش حاد في الاقتصاد العالمي مصحوبا بأزمات مالية في بعض الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
وليس مفاجئا أن نعرف أن الأسواق الناشئة في وضع أسوأ: التضخم في الأسواق الناشئة أكثر عرضة لتقلبات أسعار المواد الغذائية والطاقة، وعملاتها في وضع أضعف مقابل الأداء القوي للدولار مع استمرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تشديد سياساته النقدية. تعطل النمو وارتفاع الأسعار وتشديد السياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة يؤثر بالفعل سلبا على سندات وأصول وعملات الأسواق الناشئة، وفق فايننشال تايمز. الأسواق الناشئة تعتمد اعتمادا كبيرا على الاستثمار الأجنبي، لكن الأوضاع النقدية العالمية المضطربة حاليا دفعت المستثمرين إلى العزوف عن المخاطرة، مع احتمالية انسحاب الشركات من الدول النامية التي تكون اقتصاداتها أكثر عرضة للمخاطر.
مصر ليست في مأمن: اعتماد مصر على القمح الروسي والأوكراني (الذي يمثل 80% من وارداتنا من الحبوب المستوردة) يجعلنا أكثر عرضة لارتفاع أسعار الغذاء. ارتفع التضخم السنوي في المدن المصرية إلى أعلى مستوى له منذ ثلاث سنوات خلال مايو، إذ أدى ارتفاع أسعار السلع العالمية وخفض قيمة الجنيه إلى ارتفاع أسعار المستهلكين. خفضت ثلاث مؤسسات مالية من توقعاتها لنمو الاقتصاد المصري للعام المقبل، وتوقعت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني نمو الاقتصاد بنسبة 4.4%، ويرجح البنك الدولي نموا بنسبة 4.8%، وصندوق النقد الدولي بنسبة 5%. كما عدلت وكالة موديز للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لمصر إلى "سلبية" وسط "ارتفاع المخاطر الهبوطية" التي قد تحد من قدرتنا على سداد أقساط الديون.
ما الذي يمكن أن يفعله صناع السياسات؟ التسبب في ركود؟ الحكمة السائدة لحل الركود التضخمي هي التعامل مع التضخم عن طريق رفع الأسعار والتضحية بالنمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، وفق ما قاله خبير اقتصادي لواشنطن بوست. يعتمد منطق ذلك أن السوق تتعافى من البطالة أسرع من ارتفاع أسعار المستهلكين. عادة ما تستمر فترة الركود لمدة تقل عن عام.
وبالنسبة للأسواق الناشئة، قد تكون الاستثمارات هي غاية ما تطمح إليه: بالإضافة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة المتعلقة بالسياسة النقدية والمالية، فإن العامل الأبرز للحكومات، خاصة في الأسواق الناشئة بما فيها مصر، هو التركيز على الاستثمارات التي تحفز النمو وبالتالي تجنب الركود التضخمي، وفق ما قاله المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي محمود محيي الدين في وقت سابق.
لكن هناك ضرورة لتحقيق التوازن: قال مدير مجموعة آفاق التنمية التابعة للبنك الدولي أيهان كوسي إن "الدول النامية سيكون عليها تحقيق التوازن بين الحاجة لضمان الاستدامة المالية والحاجة إلى الحد من آثار الأزمات المتشابكة الحالية على المواطنين الفقراء". وأضاف كوسي أن إعلان القرارات المتعلقة بالسياسة النقدية بوضوح، والاستفادة من أطر السياسات النقدية الموثوقة وحماية استقلالية البنوك المركزية يمكن أن يثبت توقعات التضخم ويقلل من درجة تشديد السياسات النقدية اللازمة لتحقيق الآثار المنشودة على التضخم والنشاط الاقتصادي.