هل نخرج من الجائحة إلى التقشف؟
بينما تعمل الحكومات على تقليص الحزم التحفيزية الضخمة التي ساعدت على دفع الاقتصادات خلال الجائحة، فإن هذا – بعكس الاعتقاد السائد – يمكن أن يكون له تأثير على الاقتصاد العالمي أكبر من تشديد البنوك المركزية سياساتها النقدية، وهو ما يشير إليه تقرير وكالة بلومبرج. وأنفقت حكومات العالم مجتمعة ما يساوي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي لمساعدة اقتصاداتها المتعثرة، وهو رقم ضخم يزيد بمقدار خمسة أضعاف عن حزم التمويلات المستخدمة في إجراءات التقشف بعد الأزمة المالية لعام 2008، بحسب تقديرات بنك يو بي إس الاستثماري.
التوازن: التشديد المالي يؤدي إلى تباطؤ النمو، لكنه قد يساعد أيضا على مقاومة ارتفاع التضخم في أجزاء كثيرة من العالم. وتنفذ الحكومة ذلك عن طريق زيادة الضرائب، أو الحد من الإنفاق العام، أو تقليل وظائف القطاع العام. ويؤدي هذا إلى إبطاء الدورة الاقتصادية مؤقتا، وبالتالي إيجاد نوع من التوازن بين النمو والتضخم. اتجهت العديد من الحكومات التي تواجه ضغوطا تضخمية متزايدة إلى تقليص السياسات المالية، بحجة أن تقليل أعباء الديون سيساعد الاقتصاد على التعافي بشكل أسرع.
الحزم المالية والتطعيم من العوامل الرئيسية في انتعاش ما بعد الجائحة: مع توسع الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي بوتيرة هي الأقوى منذ 80 عاما، فإن برامج الإنفاق الضخمة، وبالتحديد في عدد محدود من الدول الغنية التي نفذت برامج عامة لدعم الأسر والشركات، كانت تعتبر أقوى محرك للنمو في مرحلة ما بعد فيروس "كوفيد-19".
لكن هذا لن يستمر طويلا: اتجاه الحكومات الأكثر إنفاقا في العالم إلى تقليل الإنفاق المرتبط بالجائحة الآن يهدد بإبطاء التعافي من الفيروس. وقررت الولايات المتحدة (أكبر اقتصاد في العالم) إنهاء الإنفاق في حالات الطوارئ، وضغطت إدارة الرئيس جو بايدن للوصول إلى خطة إنفاق ذات رؤية طويلة المدى. أما في أوروبا فقد أصبح نقاش التقشف قاب قوسين أو أدنى، وبدأ المسؤولون البريطانيون في التعبير عن واجبهم الأخلاقي ببدء تقليص العجز في الإنفاق. وفي مناطق أخرى، تخطط اليابان لمزيد من الإنفاق لكن بوتيرة أقل من حزم الجائحة، بينما تولي الصين مزيدا من الاهتمام لأرقام ميزانيتها، وتناقش البرازيل ما إذا كانت ستبقي قيود الإنفاق على حالها، أما المكسيك فلن تتزحزح كثيرا عن اتجاهها لتشديد القيود على الإنفاق.
الإنفاق لم يكن الاتجاه السائد في الاقتصادات النامية، خصوصا في ظل عدم القدرة على الاستمرار في برامج التحفيز، وتأثير مستويات الديون المرتفعة على التعافي الاقتصادي. ويقول الكاتب والمستثمر الهندي روتشر شارما في مقاله بصحيفة فايننشال تايمز إن الاقتصادات الناشئة التي نفذت برامج إنفاق مكثفة لم تستفد منها في التعافي سوى قليلا. ويضيف أن تلك "الأسواق النامية … لم تحصل على مردود انتعاشي أسرع، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى سلبيات المبالغة في حزم التحفيز". ويوضح شارما أن حكومات الدول الناشئة التي تتعامل مع المخاطر منذ فترة طويلة انتهى بها الأمر إلى نمو معدلات التضخم الرئيسية، وارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع قيمة العملة المحلية، وكل ذلك قضى على المكاسب المحتملة للإنفاق التحفيزي. وكان تأثير التحفيز على الأسواق الناشئة محدودا أيضا بسبب الجائحة، إذ يوضح البحث الذي أجراه بنك جولدمان ساكس وجود ارتباط (غير مفاجئ) بين صرامة الإغلاق ووتيرة طرح اللقاح في البلد، مع الأثر الضار على النمو.
لماذا؟ غالبا ما ينتج عن الإفراط في الإنفاق – لا سيما من قبل الأسواق الناشئة – تأثير عكسي. ويرجع ذلك إلى افتقار الأسواق الناشئة إلى كل من الموارد المالية والمصداقية المؤسسية لإجراء تعديلات كبيرة على الميزانية دون إحداث خلل في الاقتصاد. وعندما تفرط إحدى الأسواق الناشئة في الإنفاق، فإن هذا الاتجاه يزيد الضغط على أسعار الفائدة والتضخم. وقد لوحظ هذا الأمر خلال جائحة كوفيد، إذ شهد المنفقون الكبار معدل تعاف أبطأ بعد الجائحة يبلغ 12% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط 19% لدى الأسواق الأقل إنفاقا. وأضاف شارما، أن أحد عناصر الإنفاق المالي قد يكون أيضا سياسيا، إذ إن دول أمريكا اللاتينية عادة ما تكون من أكثر الدول إنفاقا، بينما تميل الدول الآسيوية إلى الحفاظ على محفظتها المالية الأكثر تشددا.
هنا في مصر، جرى تنفيذ التحفيز المالي على نطاق أصغر، بدءا من حزمة تحفيز بقيمة 100 مليار جنيه صدق عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في بداية الجائحة ثم جرى تعزيزها بمزيد من الإنفاق، مع توجه الإنفاق نحو الرعاية الصحية وتكاليف الطاقة للصناعة والسياحة والرواتب الشهرية للعمالة غير المنتظمة وشراء اللقاحات. وأطلق البنك المركزي والحكومة برامج إنقاذ لقطاع السياحة، فيما وفرت الحكومة إعانات دورية للعمال الموسميين، ومنح البنك المركزي المصري 100 مليار جنيه في شكل إقراض مدعوم للمصانع.
لا تزال السياسة النقدية في دائرة الضوء، على الرغم من مخاطر التشديد المالي، ويبدو أن الخطاب السائد أكثر قلقا من أن السياسة النقدية التيسيرية للغاية وتقليص البنوك المركزية حزم التحفيز سيكون الأمر الذي يعرقل الاقتصاد العالمي. وينطبق هذا بشكل خاص على الأسواق الناشئة، التي حققت عملاتها وسنداتها أداء جيدا هذا العام بعد جائحة "كوفيد -19"، بعد أن سحب المستثمرون 83 مليار دولار من الأسواق الناشئة في بداية 2021. وقد تواجه تلك الأسواق منافسة أشد مع ديون البلدان المتقدمة ذات المخاطر المنخفضة إذا ارتفعت أسعار الفائدة في مكان آخر. أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قبل بضعة أسابيع أنه سيبدأ في التراجع عن برنامج شراء السندات الذي تبلغ قيمته 120 مليار دولار شهريا في وقت مبكر من نوفمبر الجاري، والتخلص التدريجي من برنامج شراء الأصول بالكامل بحلول يونيو 2022. وطمأن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، مراقبي السوق بأن رفع سعر الفائدة ما زال بعيد المنال، لكنه قال إن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيتخذ إجراءات صارمة إذا هدد التضخم بالخروج عن السيطرة.