2020 عام صعب آخر على قطاع الأسمنت
يبدو أن صناعة الأسمنت مقبلة على عام صعب آخر في 2020: مع استمرار فيروس "كوفيد-19" في تدمير الاقتصادات وإغلاق القطاعات التي كانت منتعشة مثل السياحة، فإن من الصعوبة بمكان أن نتجاهل التأثير الذي يحدثه في سوق الأسمنت بمصر، وهو قطاع كان يعاني بالفعل حتى قبل دخول الوباء إلى الساحة. ويختلف اللاعبون الأساسيون في مجال الأسمنت حول مدى تأثير الجائحة، فبعضهم لا يرى لها تأثيرا كبيرا، في حين يشير آخرون إلى أن أثرها ربما يكون مدمرا.
لماذا يعاني القطاع؟ لا تزال مشكلة زيادة العرض مستمرة، مما يعود بالخسارة على الشركات ويجبرها على خفض الأسعار وتسريح العمال في محاولة للبقاء قيد العمل. وقال بعض قادة الصناعة الذين تحدثنا معهم إنه ما لم نتعامل مع المشاكل المستترة التي تسببت في زيادة العرض وهبوط الأسعار، والتي أدت إلى إغلاق عدد من المصانع قبل أزمة "كوفيد-19"، فإن الجائحة ستكون مجرد مسمار في نعش القطاع. بينما اقترح لاعبون آخرون فرض حصة تصدير إلزامية ووضع حد أدنى للسعر. وفي حين استجابت الحكومة بخفض أسعار الغاز الطبيعي، اتفق جميع من تحدثنا معهم على أن عليها تقديم المزيد.
كان 2019 عاما شاقا على صناعة الأسمنت بعد زيادة الفجوة بين العرض والطلب. وانخفض إجمالي حجم المبيعات (المحلي والتصدير) بنسبة 0.8% على أساس سنوي، ليصل إلى 49.8 مليون طن في العام المالي 2019، وفقا لمذكرة بحثية أصدرتها فاروس القابضة (بي دي إف). وانخفض الاستهلاك المحلي وحده بنسبة 3.5% على أساس سنوي ليبلغ نحو 48.7 مليون طن، وفق ما أكده لإنتربرايز الرئيس التنفيذي للشركة العربية للأسمنت، سيرجيو ألكانتاريا. وبالإضافة إلى هذا، بقيت الطاقة الإنتاجية للبلاد على حالها ما بين 80 إلى 85 مليون طن، مما أدى إلى اندلاع حرب أسعار في 2019، ودخلت الشركات في منافسة على الاحتفاظ بحصتها في السوق. وشهدت أسعار الأسمنت البورتلاندي العادي انخفاضا من 850 جنيها للطن في بداية العام إلى 800 جنيه للطن في نهايته، بحسب بيانات مباشر. وخلال تصريحاته الصحفية في سبتمبر الماضي، لفت خوسيه ماريا ماجرينا العضو المنتدب لمجموعة السويس للأسمنت، إلى أن خفض الدعم على الطاقة ورفع أسعار الكهرباء تسبب في مزيد من الضغوط المالية على شركات الأسمنت، وبالتالي زيادة تكاليف الإنتاج بنسبة 11%. ونتيجة لذلك تراجعت أرباح القطاع الخاص، إذ شهدت "السويس للأسمنت"، اللاعب الأكبر في القطاع بحصة 13% من السوق، انخفاضا في صافي الأرباح بنسبة 10% على أساس سنوي (بي دي إف)، لتصل إلى 1.2 مليار جنيه في العام المالي 2019. فيما هبط صافي دخل شركة مصر بني سويف للأسمنت، المملوكة للدولة بنسبة 20%، بنسبة 66.8% على أساس سنوي (بي دي إف)، ليبلغ 80 مليون جنيه.
بعض الشركات لم تتمكن من التأقلم مع الوضع، واضطرت الوطنية للأسمنت وأسمنت طرة وأسمنت النهضة لإيقاف كل عملياتها في العام الماضي، إما مؤقتا أو بشكل دائم.
ماذا سيحدث للأسمنت في 2020؟ يتوقع قادة القطاع أن تستمر المعاناة، بل ربما تزيد. فخلال حديثه لإنتربرايز، توقع ألكانتاريا أن عام 2020 سيكون أسوأ من 2019، حيث المزيد من توقف الإنتاج والمزيد من هبوط الإيرادات، وبالطبع المزيد من حالات الإفلاس، مشيرا إلى أن 3 أو 4 شركات ستتوقف عن العمل قبل نهاية العام الحالي، بينما ستواصل الشركات الأقوى نزيف الأموال وتستمر إيراداتها في الانخفاض. وتوقع أن تكون إيرادات الشركة العربية للأسمنت في الربع الأول من 2020 متسقة مع الأرباع الأربعة الأخيرة التي شهدت هبوطا.
أما خوسيه ماريا ماجرينا الرئيس التنفيذي لشركة السويس للأسمنت فيرى أن 2020 سيكون أسوأ من 2019، لأن القطاع يواصل الانحدار. ويتفق مع ألكانتاريا في أن عمليات الإغلاق ستستمر، وستعصف بالوظائف في مجال الأسمنت. وسبق أن أدلى ماجرينا بتصريحات في العام الماضي تفيد أنه بالإضافة إلى إيقاف الإنتاج بشكل مؤقت في أسمنت طرة، اضطرت شركته إلى الاستغناء عن ما يقرب من 2300 عامل خلال السنتين الماضيتين. وأوضح أنه بغض النظر عن أي تغييرات حصلت في العام الماضي، علينا أن نتوقع استمرار المعاناة في 2020.
واتفق كلاهما أيضا على أن عمليات الاندماج لن تنقذ القطاع، ببساطة لأن أحدا لا يريد الشراء. وقال ألكانتاريا إن مجال الأسمنت لن يشهد أي استثمارات جديدة، فلا أحد يريد الاستثمار في قطاع يبدو مستمرا في التراجع دون أي دعم حكومي ملموس. وظهر هذا واضحا في 2019، إذ لم نشهد أي عمليات استحواذ بسبب عدم وضوح الرؤية، وفقا لماجرينا، الذي أضاف أن أي كيان ناتج عن الاندماج سيخسر أكثر.
هل يمكن أن تنخفض أسعار الأسمنت أكثر؟ من المفترض أن يتراوح السعر العادل للأسمنت العادي بين 700 و750 جنيها للطن، وفق تأكيد أحمد الزيني رئيس شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية، موضحا أن طن الأسمنت يباع الآن مقابل 780 جنيها.
وكل هذا قبل دخول الجائحة إلى الساحة: يخبرنا كل من الزيني ومدحت إسطفانوس، نائب رئيس غرفة مواد البناء باتحاد الصناعات، أن تأثير أزمة "كوفيد-19" على قطاع الأسمنت ربما يكون "مدمرا"، مع تباطؤ وتيرة عمل مشروعات البناء والتشييد بسبب حظر التجول والإغلاق. وفي حين لم يرغب أي منهما في التكهن بمدى الضرر، توقع الزيني استمرار الشركات في العمل بالمنطقة الحمراء، لافتا إلى أن الوضع أصبح سيئا للغاية لدرجة أن 60% من إجمالي إنتاج مصر من الأسمنت يذهب للمشروعات القومية. واضطر موزعو الأسمنت لشرائه من الشركات بسعر أعلى والتخلي عن هامش الربح، وفقا للزيني.
وحتى الآن، اقتصرت استجابة الحكومة على خفض أسعار الغاز الطبيعي للصناعة إلى 4.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية الشهر الماضي، لكن كل من تحدثنا معهم أجمعوا على أن هذا لا يكفي لإحداث تأثير كبير. وتؤكد فاروس القابضة (بي دي إف) أن هذا قد يعطي دفعة للشركات خلال أزمة الوباء الحالية، لكنه لن يمنع وقوع الخسائر.
واتفق جميع من تحدثنا معهم على ضرورة التدخل الحكومي، ولكنهم اختلفوا في طريقة التدخل. وقال كل من ماجرينا وألكانتاريا إن المخرج الواضح هو أن تحل الحكومة مشكلة تخمة المعروض. ويوضح ماجرينا "المشكلة هي زيادة المعروض والسوق المقسمة بسبب تواجد الكثير من الشركات". وعلى الرغم من أن سبب الأزمة الرئيسي هو ضعف الطلب فإن السبب الآخر للأزمة هو الزيادة الضخمة في المعروض خلال الخمس سنوات الماضية، وفقا لألكانتريا، عندما قامت الحكومة بإصدار التراخيص على الرغم من ذلك. وفي عام 2016 أصدرت هيئة التنمية الصناعية 3 رخص للأسمنت على الرغم من وجود زيادة في المعروض قدرت بـ 18 مليون طن. ووصلت الأزمة إلى ذروتها في 2018 مع افتتاح الدولة لمصنع الأسمنت في بني سويف بطاقة إنتاجية 13 مليون طن سنويا، بالرغم من وجود فائض في الإنتاج آنذاك. ومع وصول المصنع لأقصى طاقته الإنتاجية، سيستحوذ على 26% من حصة السوق.
من جانبه يقول الزيني إن الحل هو الاتجاه للتصدير، داعيا الحكومة لفرض حد أدنى للتصدير عند 5% من إجمالي الإنتاج للحد من فائض المعروض. وأشار إلى قرار مشابه اتخذته وزارة التجارة والصناعة عام 2008 لمساعدة صناعة الأسمنت إبان الأزمة المالية العالمية في نفس العام. ويقول بعض أبرز مصنعي الأسمنت إن اللجوء للتصدير لن يكون ممكنا مثلما كان الحال عام 2008، عندما كانت أسعار الطاقة مدعمة وتكاليف الإنتاج أقل. وفي تلك الفترة كانت مصر تصدر ما يتراوح بين 6 و8 مليون طن لأسواق المنطقة. وتقول مصادر من داخل صناعة الأسمنت إنها حققت في تلك السنوات توازنا وبدأت المصانع تعاني من تعطل الطاقة التشغيلية مع بدء بعض الأسواق المستوردة في بناء قدراتها المحلية وعدم استقرار البعض الآخر سياسيا. وعلى الرغم من ذلك يكشف ماجرينا أن الحكومة لا تزال تفضل التصدير، ملمحا أنها قد تدرس المزيد من الدعم للمصدرين.
منافسة غير عادلة في سوق التصدير العالمي: وفي حين يقول الزيني إن مصر قد تجد مسلكا لدخول الأسواق الأوروبية والأفريقية يوضح ماجرينا أنه سيكون من الصعب على الأسمنت المصري منافسة لاعبين إقليميين مثل الجزائر والمملكة العربية السعودية الذين يقومون بتوفير أسعار أرخص. ويشكل الوقود 50-60% من تكلفة الإنتاج ولذلك لن يؤثر وجود الدعم من عدمه. ويقوم المنافسون في المنطقة ببيع الأسمنت بسعر 12 دولار أقل من مصر، طبقا لماجرينا وإسطفانوس. وصرح الأخير لموقع أهرام أون لاين العام الماضي بأن مصر ليست لديها ميزة تنافسية في هذا المجال، ولذلك سيتعين على السوق المحلية أن ترفع من الطلب أو على بعض المصانع أن تقلل من الإنتاج.
ويعتزم اتحاد الصناعات أيضا الضغط على وزارة المالية لإقرار تخفيضات ضريبية مقترحا إجراء تعديل على ضريبة الدخل لصالح شركات الأسمنت، والتي تحتسب ضرائبها بشكل مختلف عن بقية الصناعات.
ويطالب محللون أيضا بحلول جذرية، فتقترح فاروس تحديد الحكومة لحد أدنى لما يمكن أن يصل له الأسمنت أو خروج اللاعبين غير الأكفاء.
ومع عدم التشجيع على وضع ضوابط للتحكم في الأسعار، فيجب الاعتراف بأن الموقف وصل لمرحلة دقيقة. وفي ورقة بحثية صدرت في يناير الماضي قالت فاروس القابضة إن حركة القطاع ستتحسن بشكل ملحوظ في حالة زيادة عملية الطلب بنسبة 47% تقريبا ليزداد معدل استخدام نسبته 85% وهو "أمر يصعب تحقيقه على المدى القصير". وتوقعت فاروس أن يؤدي الوضع الحالي لإجبار الشركات التي ترهقها الديون وينخفض فيها مستويات الكفاءة على الخروج من السوق، وهو ما يقدر بـ 6 ملايين طن خلال عام مقبل، وكان ذلك قبل انتشار "كوفيد-19".