الحكومة مطالبة بتولي زمام القيادة: استحداث الإطار التنظيمي لتخصيص وتطوير الأراضي
تعقيدات الحياة في القاهرة لم تتفاقم بهذا الشكل بين ليلةٍ وضُحاها، فكُلنا يعلم أن الحالة الراهنة لقاهرة المعز هي نتاج طبيعي لعقود من سوء الإدارة وضعف التخطيط الذي يصل إلى حد الانعدام في بعض الأحيان، مصحوبًا بغياب الرؤية المستقبلية الواضحة لتجاوز المشكلات التي تعوق تقدم العاصمة التاريخية – وهي المشكلات التي تتناولها هذه السلسلة من المقالات مع تسليط الضوء على بعض الآليات والوسائل الفعالة لاستعادة رونق وإشراقة القاهرة من خلال التعاون البناء والعمل المشترك بين الحكومة وأطراف مجتمع الأعمال.
تتصدر هذا المشهد بلا منافس حالة الخلل الجوهري التي تعتري منظومة الإسكان في القاهرة، إذ تظهر مشكلة المناطق العمرانية الخارجة عن تخطيط الدولة، والتي يقطنها قرابة 850 ألف مواطن قاهري رغم أن 351 منطقة منها تعتبر غير صالحة للسكن لعدم توافر المرافق الأساسية بها مثل مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي.
وحتى تتضح أبعاد الفجوة التي نشير إليها، تخيل أن ما بين 1.5 مليون إلى 2 مليون مواطن يقطنون المقابر ، ثم تجد على النقيض نسبة ضئيلة لا تتعدي 10-15٪ من تعداد السكان من قاطني المجتمعات العقارية الفاخرة والمسورة مع امتلاك عدة منازل في المدن الساحلية.
الكثير من الدراسات الأكاديمية التي تتناول بالتفصيل احتياجات ومتطلبات سوق الإسكان بشرائحه المختلفة، رصدت اتجاه القطاع الخاص (الذي يمثل ما يقرب من 95٪ من سوق الاستثمار العقاري في مصر) إلى تلبية احتياجات شريحة بسيطة لا تتعدى 10-15٪ من المواطنين ميسوري الحال والذين يمثلون أعلى درجات الهرم السكاني. ولِنتفق أن هذه الشريحة المحدودة نوعا ما هي العامل الرئيسي وراء استمرارنا كمطور عقارى في السوق بفضل إقبالها وقدرتها الشرائية المرتفعة، ولكن لا تخفى على أحد منا هذه المفارقة العجيبة – فبينما تبيع مشروعاتنا الوحدات السكنية التي تقدر بملايين الجنيهات، في لمح البصر، هناك الكثيرون على الطرف الآخر من المدينة يعيشون في أحوال مزرية فيما يسمي بـ "العشوائيات".
والحقيقة أن مشكلة العشوائيات ما زالت حتى الآن شوكة في ظهر الجميع رغم الحديث المطول عن مساوئها وضرورة القضاء عليها، وهو ما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرًا إلى إطلاق مبادرة وطنية تقدر بـ 14 مليار جنيه لإعادة تسكين قاطني العشوائيات غير الآمنة في مساكن جديدة في غضون ثلاث سنوات. وقد تم الانتهاء من أول مرحلتين من البرنامج، ممثلة في 12 ألف وحدة سكنية، بتمويل من صندوق تحيا مصر، على أن تبدأ المرحلة الثالثة في عام 2017. ومن المتوقع أن تقوم المراحل الثلاث من هذه المبادرة الطموحة بتوطين ما يقرب من 100 ألف مواطن، وهو ما قد يبدو قطرة في المحيط ولكنه يظل خطوة هامة على الطريق الصحيح.
وبينما نري جهودًا حثيثة من قبل الحكومة في مجال الاسكان الاجتماعي، وهو أحد الملفات الهامة التي يجب أن تتصدر اهتمام الحكومة، يظل هناك ملفاً مُهملاً، وهو إسكان القطاع العريض من المجتمع المصري ممن لا ينتمون إلى أصحاب الملايين القادرين على الشراء في المجتمعات السكنية الفاخرة، ولا هم من قاطني العشوائيات الذين تتبني الدولة إعادة تسكينهم. ويبقي السؤال أين يعيش متوسطو الدخل؟ هل يُقيمون مع أسرهم أثناء رحلة البحث عن المسكن الملائم؟ هل يتحايلون على ضيق المساحات ببناء أدوار إضافية مخالفة أو ضم البلكونات إلي شققهم لتوفير مساحة أكبر؟ لا شك أن هذه السيناريوهات المطروحة أصبحت أمرًا واقعًا نشهده في غياب استراتيجية واضحة تلبي احتياجات هذه الغالبية العظمي من السكان.
وبالتالي ينبغي علينا إذا ما أردنا وضع خطة إسكان جادة وفعالة لتلبية احتياجات هذه الفئة من متوسطي الدخل، أن نبدأ بتعريف دقيق ومحدد للشريحة السكانية المعنية، وهي الغالبية العظمي من المصريين.
وفي هذا السياق قامت مؤسسة التسويق العقاري العالمية "كوليرز انترناشيونال" بنشر تقرير عن سوق العقارات في مصر لعام 2016، أشارت فيه إلى أن حوالي 52٪ ممن يطلق عليهم متوسطي الدخل في مصر، تتراوح قدرتهم المالية لشراء المسكن ما بين 230 ألف و310 ألف جنيه (أي ما يعادل 26-35 ألف دولار أمريكي) في سوق يزخر بعشرات الملايين من المواطنين.
المفارقة العجيبة أن القطاع الخاص لا يساهم في تطوير أية وحدات سكنية بهذه الفئة السعرية، متجاهلاً هذه الشريحة الهائلة، حيث يواصل التقرير تحليله، "يتراوح سعر الوحدة السكنية البالغ مساحتها 130 متر مربع بين 60 ألف و65 ألف دولار أمريكي في مدينة السادس من أكتوبر (وهي من الأحياء التي توفر مساكن بأسعار معقولة إذا ما استبعدنا المجمعات السكنية المسورة ومطورة من خلال القطاع الخاص). هذه الفئة السعرية للوحدات السكنية قادرة على اجتذاب 13٪ من سكان القاهرة الكبرى في حين تظل المشروعات العقارية الفاخرة حكراً لنسبة لا تتعدى 0.2٪ من إجمالي القاعدة السكانية.
ودائما ما يُلقى باللوم على مطوري القطاع الخاص لتجاهل طلب متوسطي الدخل، نظرًا لاستحواذ أصحاب الثروات على اهتمامهم الكامل بلا منازع كما نري. ومن هنا أصبح السؤال ملحاً: لماذا يتجاهل القطاع الخاص على عمومه احتياجات الملايين في السوق العقاري؟ لا شك ان حجم الأرباح الهائلة التي قد يجنيها مطورو القطاع الخاص من هذا الطلب الكبير كفيلة بأن تجعل هذه الفجوة مغرية للغاية.
إذا طرحت هذا السؤال على أي من شركات التطوير العقاري ستلقى نفس الإجابة: لأن الحكومة لا توفر الأراضي بأسعار تمكن المطور من مخاطبة هذه الشريحة، وبالتالي لا تترك خياراً أمامه سوى التخلي عن مشروعات الإسكان المتوسط. سيستطرد المطورون أن قيمة الأراضي في المجتمعات العمرانية الجديدة بالقاهرة ثابتة في الوقت الراهن، حيث يصل سعر المتر إلى 4500 جنيه في القاهرة الجديدة و2650 جنيه في السادس من أكتوبر. فإذا ما أضفنا تكاليف البناء والمرافق الأساسية إلى جانب النفقات العامة وهامش الربح المنشود لإقناع المطور باستثمار أمواله بدلا من تركها في البنوك، ستصل أسعار الوحدات السكنية بدون تشطيب إلى ما بين 8000 الي 12000جنيه للمتر. وبينما يروج الكثيرون لتميز هذه المواقع كسبب جوهري لارتفاع الأسعار، يبقى لدينا التساؤل المحوري: أين يسكن غالبية القاهريين الذين لا تستوعبهم المجتمعات العمرانية الجديدة التي نشأت علي أطراف العاصمة لأنها تخاطب الاغنياء فقط؟
هناك بعض المحاولات المنفردة من قبل الدولة لتلبية احتياجات سوق الإسكان المتوسط، ويتضمن ذلك على سبيل المثال مبادرة «دار مصر» التابعة لوزارة الاسكان، وهي نموذج لتلك المحاولات حيث لا يتعدى سعر الوحدات السكنية البالغ مساحتها 150 متر 637.5 ألف جنيه في القاهرة الجديدة (الفئة الأعلى سعراَ) ونحو 255 ألف جنيه للوحدات البالغ مساحتها 100 متر في مدينة السادات.
تعكس هذه الأسعار انفراد الدولة بالقدرة التنافسية نظرًا لامتلاكها الأراضي التي تقوم بتطويرها، مما يعطيها ميزة هائلة في التكلفة عن مطوري القطاع الخاص. وعلى الرغم من ذلك، تتعرض هذه المشروعات لانتقادات حادة لكونها باهظة الثمن كما أن المعروض لا يستطيع بأي حال مواكبة الطلب المتنامي، حيث تقدر فجوة العرض والطلب حاليا بنحو ثلاثة مليون وحدة سكنية. نموذج دار مصر استطاع توفير 30 ألف وحدة سكنية فقط في المرحلة الأولي التي تقرر إتمامها في يوليو 2016، ويطمح في النهاية للوصول إلى 150 ألف وحدة، وهي نسبة صغيرة لا تكاد تمس قشور وليس جذور المشكلة.
ويكمن الطريق الأمثل لمعالجة هذه الفجوة فى رأينا في عقد شراكات جادة بين الحكومة وقطاعي المال والأعمال كما أثبتت التجارب الناجحة في الأسواق الناشئة التي تبنت تطوير منظومة إسكان مثل المكسيك والهند والمغرب.
والحقيقة أن الدولة لم تعد قادرة علي تحمل مثل هذا العبء منفردة، فهي لا تمتلك الإمكانات أو الميزانية أو الطاقة للقيام بهذا الأمر. وعوضاً عن ذلك، يجب أن تتولي الحكومة زمام القيادة من خلال تبني نهج جديد في صنع السياسات، يعتمد على البيانات ويستقي معلوماته من الوضع على أرض الواقع، مع ضرورة تسليط الضوء على العقبات الحالية التي تواجه منظومة التمويل العقاري في مصر، وهو الموضوع الذي سوف نتناوله في مقال الأسبوع القادم.