حصاد 2022: ثلاثة تحديات رئيسية تعترض مسار الاقتصاد العالمي
يسير العقد الحالي (حتى الآن) عكس المسار الصاخب الذي كنا نتوقعه قبل ثلاث سنوات، وليس من سبيل للعودة على المدى القريب إلى حقبة ما قبل "كوفيد-19". فهل كان 2022 أسوأ بالنسبة للاقتصاد العالمي من عام 2020؟ لقد واجه الاقتصاد العالمي ثلاث موجات من الرياح المعاكسة خلال معظم فترات العام، تمثلت في جائحة "كوفيد-19"، والحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع التضخم عالميا، مما كان له تداعيات هائلة على الاقتصاد المحلي.
حرب اقتصادية: أثار قرار موسكو غزو أوكرانيا في 24 فبراير فوضى في أسواق السلع الأساسية، وزاد من الضغوط التضخمية المدفوعة بالعرض في جميع أنحاء العالم. تعد روسيا أحد أكبر مصدري السلع في العالم، لذا فأي اضطراب خطير في اقتصادها يتردد صداه في جميع أنحاء العالم. لكن التأثير كان أكبر عندما فرضت الدول الغربية مجموعة العقوبات المجمعة الأكثر صرامة على الإطلاق، في محاولة لعزل الاقتصاد الروسي عن بقية العالم. وعبر سلسلة من حزم العقوبات، صعدت الولايات المتحدة وأوروبا العقوبات التي تستهدف النظام المالي للبلاد، وحظر واردات السلع، وقيدت صناعة الشحن. كانت النتيجة ارتفاع أسعار النفط إلى نحو 140 دولارا للبرميل، وتقلبات في أسواق المعادن تسببت في تعطيل بورصة لندن للمعادن.
انعدام الأمن الغذائي: عجلت الحرب أيضا بأزمة في الإمدادات الغذائية، بعد توقف الأسواق عن استقبال شحنات القمح من أكبر دولتين موردتين في العالم منذ أواخر فبراير. كما تسبب حصار موسكو لموانئ البحر الأسود الأوكرانية مع العقوبات المالية الغربية في حرمان كثيرين من الحبوب الأوكرانية والروسية. ومما زاد الأمر تعقيدا أن العقوبات المفروضة على الأسمدة الروسية قفزت بالأسعار إلى مستويات قياسية وخفضت الإمدادات العالمية، مما صعّب على المزارعين في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا الحفاظ على مستويات الإنتاج الزراعي. ودفع ذلك أسعار المواد الغذائية إلى مستويات قياسية أيضا، مما دفع بعض المصدرين الرئيسيين إلى اتخاذ تدابير حمائية، وأثار المخاوف من اندلاع أزمة غذاء عالمية. إلا أن الأسواق العالمية بدأت تشهد انفراجة في الأزمة تلك خلال يوليو، عندما توسطت تركيا من أجل التوصل إلى اتفاق تاريخي بين موسكو وكييف لتصدير الحبوب الأوكرانية خلال البحر الأسود – على الرغم من روسيا علقت مشاركتها في الاتفاق بعدها بوقت قليل، لتوافق بعدها على تمديد الاتفاقية لما بعد موعد انتهائها الذي كان مقررا في 19 نوفمبر.
تعرضت مصر بشكل خاص للصدمة، باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم – إذ تحصل على 80% من وارداتها عادة من روسيا وأوكرانيا. وأدى ارتفاع أسعار القمح العالمية إلى قيام هيئة السلع التموينية بإلغاء أكثر من مناقصة دولية على مدار العام، في حين تعرض توافر الحبوب لمزيد من الضغط إذ ظلت الشحنات الموجهة للقطاع الخاص عالقة في الموانئ وسط نقص العملات الأجنبية في السوق المحلية. ولهذا بدأت هيئة السلع التموينية في بيع القمح للمطاحن والمخابز الخاصة وأيضا لمصانع المكرونة. وفي الوقت نفسه، عززت الحكومة بشكل كبير قدرات تخزين السلع الأساسية لديها، كما منحت عقود بـ 4 مليارات جنيه لشركات حسن علام للمرافق وأوراسكوم كونستراكشون وسامكريت لبناء أربعة مستودعات لتخزين الحبوب والسلع الأساسية الأخرى.
لكن الأمر لم يقتصر على القمح: فقد جاءت أيضا غالبية واردات مصر من زيت عباد الشمس من روسيا وأوكرانيا. وتعد مصر أيضا مستوردا صافيا للنفط، مما يجعلها عرضة لضغوط الأسعار التي بدأت نتيجة اختلال التوازن بين العرض والطلب خلال فترة التعافي التي أعقبت الجائحة وتفاقمت بسبب الحرب، ما دفع أوروبا للتعهد بالتخلي عن الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي.
عام كامل ركز على محاربة التضخم: مع اقتراب عام 2021 من نهايته، أصبح من الواضح أن موجة التضخم التي تجتاح العالم لم تكن مجرد انحراف مؤقت خلال أربعة عقود من استقرار الأسعار، بل كانت تهديدا خطيرا للاقتصاد العالمي. وبحلول نهاية عام 2021، كانت الأسعار في الولايات المتحدة تنمو بأسرع معدل لها منذ الثمانينيات، بينما بدأت العديد من الاقتصادات الناشئة الرئيسية في رفع أسعار الفائدة في محاولة لكبح الأسعار. وكان السؤال هو ما إذا كان بإمكان محافظي البنوك المركزية فعل الكثير لكبح التضخم الناجم عن عوامل من جانب العرض.
محليا، كان التضخم نقطة ضغط رئيسية لصانعي السياسات والقطاع الخاص: سجل التضخم في مصر أعلى مستوى له في خمس سنوات عند 18.7% في نوفمبر، إذ اتخذ البنك المركزي تحت قيادته الجديدة قرار تخفيض قيمة الجنيه في أواخر أكتوبر، مما أثر على أسعار المواد الغذائية والمشروبات. وفي محاولة للحد من التضخم، قام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة بمقدار 800 نقطة أساس على مدار العام (المزيد حول هذا في فقرة "اقتصاد" أعلاه). وأثرت التكاليف المرتفعة بشدة على نشاط القطاع الخاص غير النفطي، الذي ظل في منطقة الانكماش طيلة عام 2022.
نهاية عصر الأموال الرخيصة: قاد مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسرع موجة يشهدها العالم منذ عقود على مستوى التشديد النقدي، إذ رفع أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس في أربع اجتماعات منفصلة، ما وصل بالولايات المتحدة إلى أعلى مستوى لأسعار الفائدة منذ أواخر عام 2007 في محاولة لكبح الطلب في الأسواق.
مصر تودع "الأموال الساخنة": مصر – التي كانت تعد أحد أكثر البلدان جذبا لتجارة الفائدة في العالم – شهدت خروج كميات ضخمة من الأموال الساخنة خلال هذا العام، إذ أدى ارتفاع أسعار الفائدة عالميا وارتفاع التضخم إلى اتجاه عالمي بين المستثمرين لتجنب المخاطرة، كما دفع ذلك أسعار الفائدة الحقيقية في مصر للمنطقة السلبية. وأدى خروج مستثمري تجارة الفائدة إلى تأكيد الحكومة على أهمية إعطاء الأولوية للاستثمار الأجنبي المباشر والتصدير وليس للأموال الساخنة – في تحول للسياسة ندعمه في إنتربرايز بشدة.
من ناحية أخرى، لم تكن الجائحة اختفت بالكامل (حتى وإن نسيت منذ فترة بعيدة في مصر): أثر سعي بكين إلى عزل البلاد تماما عن فيروس كوفيد على الاقتصاد بطريقة سلبية. وأدى تفشي الوباء في أنحاء الصين في وقت مبكر من العام إلى إغلاق كامل للعديد من أكبر المدن وأكثرها أهمية من الناحية الاقتصادية لأسابيع، مثل بكين وشنغهاي وشينزين، وهي خطوة لم تسفر عن شيء يذكر في تخفيف اضطرابات ما بعد كوفيد في سلسلة التوريد في الداخل أو الخارج. كما اتخذت السلطات الصينية منعطفا مفاجئا عن نهجها الصارم تجاه الجائحة في ديسمبر، في ما يبدو أنه كان استجابة لاندلاع الاحتجاجات ضد جولة أخرى من عمليات الإغلاق في نوفمبر. ولكن بدلا من أن يقضي هذا القرار على مشاكل البلاد، فإن التراجع المتسرع ترك الصين الآن في مواجهة ما كان على معظم دول العالم التعامل معه في شتاء 2020: ارتفاع حالات الإصابة ودخول المستشفيات، ونقص الإمدادات الطبية، واضطرابات سلسلة التوريد الناجمة عن نقص العمالة.
كل هذا كان وبالا على رأس الاقتصاد العالمي: في سلسلة توقعاته الاقتصادية على مدار العام، بدا صندوق النقد الدولي أكثر تشاؤما بشكل تدريجي بشأن آفاق الاقتصاد العالمي. فبعد توقعات أكتوبر 2021 بنمو الاقتصاد العالمي بنسبة 4.9% هذا العام، باتت لهجة الصندوق أكثر تشاؤما بشكل ملحوظ بعد عام واحد فقط. كتب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في أكتوبر الماضي، والتي تتوقع نموا بنسبة 3.2% هذا العام و2.7% في عام 2023: "الأسوأ لم يأت بعد، الكثير من الناس سيشعرون بالركود في عام 2023". بحلول الربع الرابع، كان محللو البنوك الاستثمارية يتوقعون أن يدفع ارتفاع أسعار الفائدة الولايات المتحدة إلى الركود في 2023، وانكماش اقتصاد منطقة اليورو بسبب أزمة الطاقة في أوروبا.
وفي غضون ذلك، يتوقع البنك الدولي تباطؤ نمو الاقتصاد المصري إلى 4.5% للعام المالي 2023/2022، انخفاضا من 6.6% في العام المالي 2022/2021، وفقا لتقرير مرصد الاقتصاد المصري (بي دي اف) المنشور مؤخرا. ويرجح البنك الدولى استمرار ارتفاع أسعار الفائدة – الناجم عن الضغوط التضخمية المتواصلة – وإطلاق الحكومة حزمة التخفيف الاجتماعي في تقييد قدرة البلاد على سداد الديون.
وعلى الأسواق كذلك: مرت أسواق الأسهم والسندات العالمية بواحدة من أسوأ السنوات في التاريخ بسبب تشديد الظروف المالية. وخسرت الأسهم نحو 14 تريليون دولار من قيمتها في جميع أنحاء العالم، بينما أدى ارتفاع العائدات إلى عمليات بيع تاريخية في السندات العالمية. وكانت سوق الطروحات (خاصة بالنسبة للشركات ذات غرض الاستحواذ التي لازمت زخم عام 2020) شبه معدومة، في حين تراجعت أحجام إصدار السندات وسط التقلبات.
الأسواق الناشئة والمبتدئة وقعت ضحية الاضطرابات: سحب المستثمرون الأجانب مليارات الدولارات من الأصول الأكثر خطورة، وتعاظمت قوة الدولار مقابل العملات الأخرى، مما فاقم مشاكل الديون الموجودة مسبقا لدى الدول منخفضة الدخل. وفي مايو، تخلفت سريلانكا عن سداد ديونها لأول مرة في تاريخها، بينما كانت سندات عدد قياسي من الدول تتداول عند مستويات منخفضة للغاية خلال الصيف.
كان الوضع في دول الخليج مختلفا تماما: بدعم من ارتفاع أسعار النفط، كان عام 2022 مزدهرا بالنسبة للأسواق المالية في الخليج، وشهد تزاحم الشركات على الطرح في أبو ظبي ودبي والرياض. وسجلت بورصات دول الخليج أكثر سنواتها زخما على الإطلاق من حيث الطروحات الجديدة، مع 27 طرحا عاما أوليا جمعت 14.5 مليار دولار. وفي الوقت نفسه، شرعت صناديق الثروة السيادية في المنطقة في استعراض قوتها المالية المدعومة بدولارات النفط على مستوى لم نشهده في أي مكان آخر في العالم.