العشرينيات الصاخبة
ازدهرت الفنون والثقافة في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي، عندما اندمجت الموسيقى المزدهرة والرقص ومشهد الحياة الليلية لتخلق قوة ثقافية لا مثيل لها في تاريخ البلاد. كانت العشرينيات من جوانب كثيرة حقبة احتضنت الكوزموبوليتانية (الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد بناء على الأخلاق المشتركة)، على الأقل في المناطق الحضرية من البلاد، وشق إحساس بالتمرد طريقه إلى جوانب معينة من المجتمع المصري.
ولد مشهد الحياة الليلية الصاخبة في عشرينيات القرن الماضي بفضل جهود عدد قليل من الفنانات الجريئات: وضعت مجموعة من الراقصات والمطربات والفنانات الاستعراضيات تعملن في وقت متأخر من الليل، الأساس لمهن واعدة في القاهرة وكسرن حواجز ما يعنيه أن تكوني امرأة في المجتمع المصري المحافظ تقليديا.
منيرة المهدية كانت من أشهر فنانات العصر، فهي مطربة وممثلة لم تواجه فقط اتهامات بـ "إفساد الأخلاق ونشر الرذيلة" في المجتمع، لكنها أثارت غضب ممثلي الاحتلال البريطاني بأغانيها المناهضة للاستعمار. ولدت المهدية على الأرجح في الزقازيق في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأت حياتها المهنية كأول امرأة مسلمة تقدم عرضا على المسرح بعد الفرار من منزلها للغناء في المقاهي والنوادي الليلية في القاهرة، حيث قدمت الأغاني التي تروج للقضية الوطنية. مضت المهدية قدما في تأسيس فرقتها المسرحية المؤثرة وأصبحت أول امرأة تقدم عروض الأوبرا في مصر. على الرغم من الانتقادات التي وجهتها لها بعض جهات المجتمع، إلا أنها حازت على ميدالية من الحكومة لعملها على إحياء الغناء العربي.
أيقونة أخرى من تلك الحقبة كانت بديعة مصابني التي ولدت في سوريا، والتي قدما عروضا للغناء والتمثيل في جميع أنحاء القاهرة قبل أن تؤسس "صالة بديعة مصابني"، وهي واحدة من أشهر الملاهي الليلية في القاهرة في تلك الآونة. وفي الوقت الذي جرى فيه حظر الرقص الشرقي في النوادي الليلية في القاهرة، أصبحت مصابني واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في الرقص الشرقي الحديث في كازينو أوبرا حيث ابتكرت حركات جديدة وروجت لأزياء جديدة ودمجت أنواعا مختلفة من الآلات. وبفضل عملها جرى تسمية الكوبري بين الزمالك والجيزة كوبري بديعة، قبل تغيير اسمه إلى كوبري الجلاء في أعقاب ثورة 1952.
لم يستطع الفنانون الأجانب مقاومة تلك القوة: في أعقاب الحرب العالمية الأولى، توافد الراقصون وفنانو الملاهي الليلية الأوروبيون لبناء حياتهم المهنية في ذلك المجال المتنامي. غادرت نساء أوروبا الشرقية تحديدا القارة التي مزقتها الحرب للغناء في صالات الرقص بالأزبكية، والتي كانت واحدة من أبرز أماكن الترفيه الليلي في المدينة. ومن أشهر الشخصيات في عالم الحياة الليلية في تلك الموجة من الفنانين المهاجرين كانت راقصة أوروبية تدعى دينا ليسكا التي افتتحت صالتها الخاصة في شارع عماد الدين وأطلقت عليه اسم بار ليسكا.
حتى الموسيقيين الأمريكيين جاءوا بحثا عن موطن لهم في أم الدنيا: كان موسيقيو الجاز مثل بيلي بروكس وجورج دنكان من بين أولئك الذين اختاروا الاستقرار في القاهرة بعد أن اختبروا مزيجا من النجاح والعنصرية خلال جولاتهم في أوروبا ضمن عرض فني. شكل بروكس ودنكان فرقة اسمها ديفيل جاز وكثيرا ما قدما عروضا في أماكن في شارع عماد الدين في مطلع العشرينيات مع قائمة متناوبة من الأوروبيين المقيمين في مصر وبعد ذلك مع عازف إيقاع مصري. كان بروكس ودنكان جزءا من عدد قليل من الموسيقيين الأمريكيين من أصل أفريقي الذين استوطنوا في مصر خلال العقد، مما أجج مشهد الجاز المحلي الذي أصبح محبوبا بين الشعبيين والنخبويين على حد سواء.
في الوقت نفسه، ترسخ الافتتان بالثقافة المصرية القديمة في الخارج: بعد فترة قصيرة من اكتشاف مقبرة توت عنج آمون في عام 1922، صار الهوس الغربي بالثقافة المصرية القديمة مفرطا. استلهم مصممو الأزياء في لندن والولايات المتحدة كثيرا من القطع الأثرية التي نشرت صورها في الصحافة الأجنبية وبدأت شركات صناعة الأفلام في إنتاج أفلام توت عنخ آمون.