"موجة الاستقالات الكبرى" تجتاح العالم
"موجة الاستقالات الكبرى" تجتاح العالم: شقت ما تسمى بـ "موجة الاستقالات الكبرى" طريقها للولايات المتحدة هذا العام، إذ تخلى عدد قياسي من الأمريكيين عن وظائفهم. لكن هذه الظاهرة لا تقتصر على سوق العمل الأمريكي فقط، إذ بدأت شركات في دول عدة حول العالم تكافح للعثور على المواهب والاحتفاظ بها في المواقع الوظيفية التي تتطلب أو لا تتطلب مهارات على حد سواء، وهو توجه قد يؤدي إلى تقويض تعافي الاقتصاد العالمي من الجائحة.
موجة الاستقالات الكبرى قادمة: هذا ما قاله عالم النفس التنظيمي أنتوني كلوتز في مقابلة مع بلومبرج مايو الماضي، وهو من صاغ هذا التعبير متوقعا أن يترك العديد من الأشخاص وظائفهم قريبا.
ويبدو أن هذا ما حدث فعلا: أظهرت بيانات سوق العمل الأمريكي التي نشرت بعد بضعة أشهر من المقابلة أن أربعة ملايين أمريكي استقالوا من وظائفهم في أبريل. قدمت الأشهر اللاحقة أدلة أخرى داعمة على ذلك، إذ سجلت معدلات الاستقالة مستويات ارتفاع قياسية جديدة في يوليو وأغسطس وسبتمبر، والتي شهدت تقديم 4.4 مليون شخص استقالاتهم.
ما أسباب ذلك؟ يقول كلوتز إن جائحة "كوفيد-19" أدت إلى عملية إعادة تنظيم للقيم بين الكثير من العمال في الولايات المتحدة، ذلك لأن هويتنا كموظفين تعد مسألة أساسية لهويتنا ككل، والاضطرابات التي واجهناها خلال الجائحة سواء كانت التسريح من العمل أو العمل من المنزل أو الاستنزاف والإنهاك أو الإصابة بالمرض أو الوفاة، منحت الناس سببا وجيها للتوقف والتفكير وفي بعض الأحيان أدت إلى إعادة ترتيب أولوياتهم.
لكن حالة الاستياء من أماكن العمل في الولايات المتحدة موجودة قبل سنوات من تفشي الجائحة. بالمقارنة بدول أخرى متقدمة، ظروف العمل في الولايات المتحدة ليست عظيمة بالنظر إلى لوائح لا تحفظ الكثير من حقوق الموظفين، إلى جانب الأجور المتدنية والدور الضعيف للنقابات.
ليست مجرد ظاهرة أمريكية: كشفت دراسة لجامعة هارفارد شملت 9 ملايين موظف في 4000 شركة حول العالم أن معدلات الاستقالة ترتفع في صفوف الموظفين في منتصف حياتهم المهنية ممن تتراوح أعمارهم بين 30 إلى 45 عاما، بمتوسط زيادة بلغ أكثر من 20% في عام 2021 عن العام السابق. شهد قطاعا التكنولوجيا والرعاية الصحية قفزة غير اعتيادية في معدلات الاستقالة، وعزت الدراسة ذلك إلى زيادة أعباء العمل التي سببتها الجائحة.
هل يفضل الشباب الصيني "الاستلقاء" عن حياة العمل المزدحمة؟ هناك مؤشرات على بدء الأجيال الشابة من الموظفين في الصين في رفض ثقافة العمل القاسية في البلاد والسعي لبدائل. وبات الشباب يستخدمون مصطلحا علميا اجتماعيا "الالتفاف" والذي يشير إلى اللحظة التي يفشل فيها النمو السكاني في تحقيق ناتج أكبر، وذلك للتعبير عن شعورهم بالإنهاك من منظومة العمل. ونتيجة لذلك، انطلقت حركة تدعو الناس إلى التخلي عن حياة العمل الصاخبة و "الاستلقاء"، ما يعني التوقف عن البحث عن وظائف وترك أماكن العمل ورفض النزعة الاستهلاكية. والآن، بدأت البلاد تعاني من نقص العمالة في الصناعات فائقة التكنولوجيا والمصانع التي تتطلب مهارات منخفضة.
هناك توجه مماثل في دول آسيوية أخرى: كشفت دراسة حديثة أن شركات في إندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفلبين تجد صعوبة في العثور على المواهب والاحتفاظ بها. تؤدي مشاعر السخط بسبب ظروف العمل إلى زيادة معاناة الشركات، خاصة في الاحتفاظ بالموظفين المهرة في منتصف حياتهم المهنية وإيجاد بديل لهم.
مهلا.. هذه ليست لحظة يتحد فيها عمال العالم: على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، لا يوجد استقالات جماعية ومعدلات البطالة تشق طريقها ببطء لكن بثبات إلى مستويات ما قبل الجائحة. في حين لم يمنع الناس من إعادة التفكير في علاقتهم بالعمل داخل القارة الأوروبية، إلا أنه لم يخلق موجة استقالات جماعية مثل التي شهدناها في الولايات المتحدة، وفقا لشبكة يورو نيوز. بصورة عامة، ساعدت خطط التعافي الأوروبية، التي أبقت على مرتبات الموظفين بدلا من منحهم إعانات بطالة، العاملين على الحفاظ على علاقتهم مع أرباب العمل، وقدمت درسا مهما حول إدارة العمالة خلال الأزمات. منحت مؤسسات سوق العمل الأوروبية القوية الموظفين المزيد من المساحات للإبلاغ عن أي مظالم، ما قلل من احتمالية حدوث استقالة جماعية بين الأفراد.
في الولايات المتحدة، هناك جوانب غير مرئية للأزمة: الأرقام التي رُصدت هذا العام للاستقالات لا تشير بالضرورة إلى تضخم مفاجئ في عدد الأشخاص الذي يريدون الاستقالة من وظائفهم. تسببت الاضطرابات الناجمة عن "كوفيد-19" إلى تمسك المزيد من الأشخاص بوظائف كانوا مستعدين لتركها، وتشير التقديرات إلى أن هناك 3.7 مليون "استقالة لم تحدث" هذا العام، وفقا لما قاله كبير علماء الاقتصاد لدى جلاس دور دانيال تشاو لموقع بيزنس إنسايدر. قال آخرون إن سوق العمل الأمريكي كان محدودا قبل الجائحة، مشيرين إلى توقف النمو السكاني لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة العام الماضي باعتباره عاملا أساسيا في محدودية السوق.
لكن يبدو أن هناك تحولا، إذ اكتسب الموظفون نفوذا أكبر، فيما بدأ أرباب العمل في إعادة التفكير في الأولويات: بات للموظفين اليد العليا في علاقتهم بأرباب عملهم للمرة الأولى لأي جيل في الولايات المتحدة، وقد بدأ أصحاب العمل في رفع الأجور وتدريب المزيد من الناس ومنح الفرص لمن لا يمتلكون مؤهلات، إلى جانب التحلي بمرونة أكبر حول كيفية ومكان عمل العاملين. بدأ العديد من الموظفين الذين فقدوا وظائفهم خلال الجائحة إعادة النظر في خياراتهم، ساعين إلى تعزيز مؤهلاتهم ومهاراتهم مع تطلعهم لتغيير مهنتهم أو العثور على وظيفة أقرب لمنازلهم، فيما يسعى آخرون إلى الحصول على وظائف تساعدهم على تحقيق توازن أفضل بين حياتهم الشخصية والعملية أو ظروف عمل أكثر مرونة. كشفت دراسة قارنت بين استطلاعين في عام 2013 و2020 شملت أصحاب المهارات المعرفية أنهم كانوا أكثر إنتاجية وحفاظا على الوقت وتحملوا مسؤولية مهام أكثر من الموكلة إليهم ويقدرون قيمة عملهم أكثر عندما عملوا من المنزل.
بداية جديدة لمستقبل العمل؟ جعلت الجائحة، التي كانت حافزا رئيسيا لحدوث تغيرات في مستقبل العمل، عمل ذوي الياقات البيضاء عن بعد أمرا طبيعيا، ما أدى أيضا إلى تسريع أتمتة أعمال الخدمات وتغيير سير العمل بمجال التجزئة حيث يتمكن عدد قليل من الموظفين من تحمل أعباء العمل. قالت الدكتورة إيزابيل ويلبي، الباحثة في مجالات التنظيم والابتكار والقيادة بجامعة ميونخ التقنية، إن المنظمات المستقلة اللامركزية هي المرحلة المقبلة لشكل المنظمات. نظرا لأن العمل الفردي غير المتزامن بات مسألة شائعة، فإن التوجه القائم على أن شيئا واحدا يناسب الجميع الذي شكل أماكن العمل من قبل، ثبت أنه ليس مستداما. ومع تغير طبيعة العمل، سيتعين على الموظفين اعتماد أساليب قيادة جديدة تمنحهم ميزة القيادة الذاتية من خلال قدر أكبر من المسؤولية والمساءلة بدلا من التحكم والسيطرة.