مع هذه الحقائق، لا حاجة لنظريات المؤامرة

تطمس بعض نظريات المؤامرة الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف، وتبين مع مرور الوقت أن عددا قليلا من القصص السخيفة التي وُصفت ذات مرة بنظريات مؤامرة صحيحة بالفعل. نتعمق في السطور التالية في بعض أشهر هذه القصص وأكثرها إثارة للصدمة، والتي ستجعلك تتساءل عن الحقائق التي اعتبرتها يوما أمرا مسلما به.
هل تسيطر وكالة الاستخبارات الأمريكية على وسائل الإعلام؟ يُزعم أنها قامت بذلك من خلال عملية الطائر المحاكي: جندت الاستخبارات الأمريكية صحفيين بارزين من جميع أنحاء العالم، من الحائزين على جائزة بوليتزر والصحفيين الأمريكيين إلى المراسلين الأجانب والصحفيين المستقلين، أتاح جميعهم الفرصة للاستخبارات الأمريكية للوصول إلى مؤسسات إخبارية رائدة. يُزعم أن العملية بدأت خلال الحرب الباردة وكُشف عنها لاحقا بعد ما عُرف بفضيحة ووترجيت. رغم أنه لم يجر الإشارة أبدا إلى عملية الطائر المحاكي في الوثائق التي رفعت عنها السرية، إلا أن مشروع الطائر المحاكي الذي راقبت الاستخبارات الأمريكية من خلاله صحفيين اثنين في الستينيات خرج إلى النور. كشف التحقيقات التي أجرتها لجنة الكنيسة في الكونجرس في أنشطة الاستخبارات أن الوكالة أقامت علاقات مع مؤسسات إعلامية وجماعات مدنية، رغم صعوبة التأكد من مدى عمق هذه العلاقات. أفاد التقرير أن "وكالة الاستخبارات الأمريكية لديها حاليا شبكة تضم عدة مئات من الأفراد الأجانب حول العالم الذين يزودونها بإمكانية النفاذ المباشر لعدد كبير من الصحف والمجلات الدورية وعشرات المؤسسات الإخبارية والخدمات الصحفية ومحطات التليفزيون والإذاعة وجهات نشر الكتب التجارية ووسائل الإعلام الأجنبية الأخرى". لذا إذا لم تكن عملية الطائر المحاكي موجودة بهذا الاسم، إلا أنه جرى تطبيق الكثير من مضمونها.
هل طورت الحكومة الأمريكية سلاحا للسيطرة على العقول؟ حسنا.. حاولوا ذلك من خلال مشروع "إم كي ألترا": أجرت الاستخبارات الأمريكية تجارب بيولوجية على مواطنين أمريكيين -غير مدركين لما يحدث- ضمن بحث للتوصل إلى عقار يسيطر على العقل لاستخدامه كسلاح ضد الروس في الحرب الباردة. يبدو جنونا، أليس كذلك؟ لكنه حدث كثيرا. تلقى المشاركون في التجربة واسعة النطاق، الذين لم يكونوا على علم بأهدافها، عقاقير هلوسة في محاولة للتحقق إذا كان هناك إمكانية لجعلهم أكثر عرضة للتنويم المغناطيسي وأكثر مقاومة للتعذيب وأشياء أخرى ليست لطيفة لذكرها. استهدفت هذه التجارب- التي أجريت بمساعدة 80 مؤسسة من بينها مستشفيات وسجون وجامعات- سجناء ومدمني مخدرات أو أفراد من الفئات المهمشة في المجتمع "غير القادرين على المقاومة"، وفق توصيف سيدني جوتليب، عالم الكيمياء الذي قدم عقار "إل إس دي" للاستخبارات الأمريكية. من المعروف أن واحدا من المشاركين في التجارب على الأقل انتحر بعد حصوله على جرعة مرتفعة من عقار "إل إس دي". قال الصحفي ستيفن كينزر، الذي قضى أعواما يتحقق في الأمر وألف كتابا حول البرنامج، "إننا لا نعرف عدد من توفوا (جراء أو خلال التجارب)، لكن عددا من المشاركين قد ماتوا، وتدمرت حياة الكثيرين منهم للأبد".
هل أجرى الأطباء تجارب على العامة دون الحصول على موافقتهم؟ نعم.. فعلوا ذلك في تجربة توسكيجي لداء الزهري. أجريت دراسة منافية لأخلاقيات المهنة امتدت لـ 30 عاما على مرض الزهري على 600 رجل أمريكي من أصول أفريقية. بدأت هيئة الصحة العامة الأمريكية التجربة في ثلاثينات القرن العشرين، إذ جند الأطباء مشاركين في الدراسة مقابل فحوصات طبية ووجبات غذائية مجانية. لم يطلع الأطباء المشاركين في التجربة أنهم مصابون بمرض الزهري، لكنهم كانوا يتلقون علاجا لما عُرف آنذاك بـ "الدم الفاسد"، مصطلح استخدم للإشارة إلى عدد من الأمراض. لكن هل تلقوا أي علاج؟ لا. على مدار أعوام تلقى المشاركون علاجا وهميا، رغم أن البنسلين كان مقبولا كعلاج للمرض بعد نحو 15 عاما من الدراسة. وبدلا من علاج المشاركين، تتبع الأطباء التطور البطيء للمرض وتركوهم يعانون حتى ماتوا. عقب أن كشف تقرير لوكالة أسوشيتد برس في سبعينيات القرن الماضي ما كان يحدث، ألغيت الدراسة، وجرى التوصل إلى تسوية بقيمة 10 ملايين دولار مع عائلات الضحايا، دون اللجوء إلى المحكمة.
بعض نظريات المؤامرة اليومية العادية: هل هناك من يراقبك فعلا؟ انبثقت العديد من نظريات المؤامرة من جنون العظمة المتمثل في أن هناك من يراقبك دائما، لكن هل هناك من يراقبك فعلا؟ هل تتذكر عندما كان إدوارد سنودن والمعلومات التي سربها لـ ويكيليكس حديث الساعة؟ كشفت الوثائق التي سربها سنودن أنه جرى التجسس على قادة وزعماء سياسيين من بينهم المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل. ورغم أن الكشف كان مفاجئا آنذاك، إلا أنه بات عاديا جدا بعد ذلك، إذ تتجه حياتنا ببطء لتشبه إحدى روايات أدب الديستوبيا لجورج أورويل، مع انتشار الأجهزة الذكية سواء في منازلنا أو داخل جيوبنا والتي تجمع بيانات باستمرار حول ما نفعله.
كما أن مواقع التواصل الاجتماعي تملي عليك طريقة تفكيرك: لا يمكن إنكار تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على آرائنا واختياراتنا اليومية، لكن فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" كشفت ما يمكن أن تصل إليه هذه المواقع. جمعت الشركة المختصة بتحليل البيانات بيانات أكثر من 50 مليون مستخدم على موقع فيسبوك وأساءت استخدامها بإنشاء ملفات عن ملامح نفسية كل فرد منهم يمكن استخدامها في التأثير على المستخدمين من خلال إعلانات سياسية مخصصة قد تلقى قبولا لديهم، وفق ما قاله كريستوفر وايلي الذي عمل على جمع البيانات. كان للشركة دور بارز في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في عام 2016، وتشير مزاعم إلى أنها لعبت دورا أيضا في التأثير على التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكسيت". قد تكون العملية أكبر محاولة واسعة النطاق للتلاعب بالرأي العام في التاريخ، والتي دفعت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية إلى فرض غرامة على فيسبوك قيمتها 5 مليارات دولار لإساءة استخدام البيانات.
مع ذلك، لا يجب أن تصدق كل ما تسمعه: على الرغم من وجود جانب من الصحة في بعض نظريات المؤامرة، إلا أن معظمها خاطئ. يكمن الخطر الحقيقي عندما يطلق البعض على الحقائق والعلم نظريات مؤامرة أو "أخبارا كاذبة". من الأمثلة الحية على ذلك استخدام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب توصيف "الأخبار الكاذبة" كسلاح للانتقاص من مصداقية وسائل الإعلام التي تنتقد سياساته وخطاباته. لا تقتصر المعلومات المضللة على الساحة السياسية فحسب، بل تمتد إلى مجالات أخرى من بينها تغير المناخ والترفيه والصحة. تهدد المعلومات المضللة بطمس تقييمنا وإحساسنا بالحقيقة وتؤثر على حكمنا على الأمور، ما يتسبب في خلق عالم تكون فيه الحقيقة أقل أهمية من أي شيء آخر.