الجانب المضيء لتغير المناخ؟ أطنان من المعلومات عن التاريخ البشري
أوكي.. تغير المناخ له آثار إيجابية رغم كل شيء: مع استمرار ذوبان الجليد جراء ارتفاع درجات الحرارة العالمية في السنوات الأخيرة، ظهرت لنا ثروة من الحفريات المحفوظة جيدا ولم يكن يمكن الوصول إليها سابقا، والتي تعطينا فكرة أوضح عن فترات لم نكن نعرف عنها الكثير في التاريخ البشري. وهكذا فإن تغير المناخ كما ترون له آثار سلبية على كوكب الأرض، لكن اتضح أنه مصدر مهم لعلم الآثار، ولو مؤقتا على الأقل. انطلق علم الآثار الجليدية في العقود الأخيرة مع ظهور اكتشافات كبرى ما بين جبال الألب السويسرية إلى النرويج وكندا، ويتتبع تقرير على صحيفة نيويورك تايمز تاريخ هذا المجال.
يبدو مجالا رائعا، لكن فيم يختلف بالضبط عن علم الآثار العادي؟ قليل من الجليد الذائب؟ ليس بالضبط، إذ أن علماء الآثار العاملين في هذا المجال لا تتاح لهم فرصة الاستكشاف سوى لشهر واحد فقط، وهو الفترة التي تفصل بين ذوبان ثلوج الشتاء الماضي في منتصف أغسطس وبداية الشتاء الجديد أواخر سبتمبر. عمليات الحفر واستخراج الحفريات لا تمثل سوى جزء صغير من علم الآثار الجليدية، بينما يعتمد الجزء الأكبر على مسح الأماكن لمعرفة ما كشف عنه الجليد. وبمجرد العثور على شيء، يكون أمام العلماء مساحة قليلة، ربما عام على الأكثر، لدراسة الحفريات قبل تعرضها لعوامل الجو التي تؤدي إلى تدهور المواد العضوية. التجدد المستمر للجليد داخل الأنهار الجليدية يعني صعوبة حفظ الحفريات لأكثر من 500 عام، مع استثناءات بسيطة مثل البقع الجليدية التي تكون أقل تغيرا وأكثر استقرارا، وتعد موقعا أفضل للبحث عن نتائج إذابة الجليد.
الموضوع يعتمد أكثر على التعامل "مع" الجليد، وليس الحفر خلاله: في البداية كان العلماء يعثرون على عناصر تعود إلى العصر الحديدي (منذ 500-1200 عام). لكن مع توالي فصول الشتاء واستمرار الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، انكشف الحجاب عن طبقات جديدة من الأرض ونتائج أقدم، تعود إلى العصر البرونزي (1200-3300 قبل الميلاد) والعصر الحجري.
أقدم قضية قتل غير محلولة في التاريخ: يبرز هنا اسم أوتزي المعروف كذلك باسم "أيس مان"، والذي عثرت عليه مجموعة من المتنزهين في جبال أوتزتال بإيطاليا عام 1991. في البدء اعتقد الجميع أن مومياء العصر النحاسي تلك تخص أحد متسلقي الجبال المفقودين، لكن بعد التأريخ بالكربون تبين أنه مات منذ نحو 5300 عام. جسد أوتزي مغطى بالوشوم والملابس المصنوعة من جلود الحيوانات، وفي جعبته العديد من الأدوات والأدوية العشبية. ويبدو أنه تعرض للقتل خلال عبور الجبال، إذ وجد الباحثون سهما من الصوان يخترق صدره. ويعد أوتزي ضحية أقدم قضية قتل غير محلولة في التاريخ البشري، وهو معروض مع أدواته في حاوية خاصة باردة بمتحف جنوب تيرول للآثار في بولزانو بإيطاليا.
منذ ذلك الحين، أنشئت مراكز بحث مخصصة لدراسة ما يكشفه الجليد: أنشأت مقاطعة إنلاندت النرويجية، حيث وقع عدد كبير من الاكتشافات في عام 2006 بعد صيف طويل وحار بشكل غير اعتيادي، برنامج علم الآثار الجليدي الذي تموله الدولة. من بين الاكتشافات البارزة حذاء قديم من جلد الحيوانات يبلغ عمره 3000 عام، يعتقد أن الصيادين ارتدوه، بالإضافة إلى قوس صيد كامل نادر منذ 3300 عام. في إقليم يوكون الكندي، تعد البقع الجليدية الواسعة هي الموقع الآخر الوحيد الذي ينفذ فيه برنامج دائم لعلم الآثار الجليدية، ورشحت بقع يوكون الجليدية كموقع للتراث العالمي لليونسكو لمساهمتها المستمرة في معرفتنا بتاريخ البشرية.
دراسة هذه الحفريات قد تعطينا فكرة أعمق عن آلية تنظيم المجتمع البشري: تظهر مدافن شعب بازيريك في جبال ألتاي في منغوليا أن البدو الذين يركبون الخيول يمارسون تجارة واسعة النطاق، حيث كان الحرير الصيني من بين العناصر التي عثر عليها مع الحفريات. والأكثر خطورة، كشفت بقايا امرأة وطفلين عثر عليها على قمة جبل في جبال الأنديز أنهم قتلوا كجزء من طقوس تضحية بشرية للإمبراطور معروفة باسم كاباكوشا.
أتاح الجليد بقدرته على الحفظ الوصول إلى أكثر من مجرد حفريات بشرية: عثر على جرو محفوظ بشكل استثنائي من نوع غير معروف سابقا من الكلاب / الذئب يدعى دوجور – يعتقد الآن أنه سلف لكليهما – في عام 2018 في سيبيريا، بينما جاء اكتشاف الماموث الصوفي الصغير المحفوظ بشكل كامل تقريبا والذي يرجع تاريخه إلى 40 ألف عام في عام 2007 من نفس المنطقة بعد الاكتشاف المستمر لأنياب الماموث التي تظهر من التربة الصقيعية كل فصل شتاء. يعمل العلماء على دمج الحمض النووي الضخم من هذه الاكتشافات مع الأفيال الحديثة من أجل الهندسة الوراثية للماموث الصوفي الواقعي من أجل تنشيط النظم البيئية للسهوب في سيبيريا، وفق ما جرى الإشارة إليه سابقا.
على الرغم من وفرة النتائج، لا يستطيع العلماء المضي قدما بوتيرة سريعة: تآكل المحيط في أماكن مثل ألاسكا يعني أن ثروة من الحفريات المحفوظة تضيع في البحر، ومعهم آمالنا في اكتشاف المزيد عن حياة الإنسان والحيوان القديمة. والتقدم السريع في ظاهرة الاحتباس الحراري يعني أن عددا لا يحصى من الاكتشافات المحتملة قد تضبع هباء قبل العثور عليها. ولكن نظرا لأن تغير المناخ مستمر معنا، فمن المحتمل أن مجال الآثار الجليدية سينمو فقط، وستتاح للعلماء العديد من الفرص لإلقاء نظرة فاحصة على هذه الأجزاء المجمدة من التاريخ.