حين سارت الحيتان
اكتشف فريق مصري نوعا جديدا من الحيتان البرمائية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وهو اكتشاف يمكن أن يساعدنا بشكل كبير للغاية في فهم كيفية تطور الثدييات من الحياة على سطح الأرض إلى البحر. وعثر فريق من العلماء من مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية على الحفرية البالغة من العمر 43 مليون عام في صحراء الفيوم، والتي تكشف عن نوع جديد من الحيتان ذات الأربع أرجل، والتي سبق وعاشت في أفريقيا على البر والبحر سواء بسواء. ونشر فريق البحث الذي قاده عبد الله جوهر النتائج التي توصلوا إليها في دراسة على دورية Proceedings of the Royal Society المحكمة، مما جذب اهتمام وسائل الإعلام العالمية لهذا الاكتشاف التاريخي.
حوت الموت: سمي الحوت فيوميسيتس أنوبيس، والجزء الأول من اسمه مشتق من الفيوم حيث عُثر عليه، أما الأخير فهو إله الموت لدى قدماء المصريين. وتوصل الفريق إلى أن طول الحوت كان يصل إلى ثلاثة أمتار، ووزنه 600 كيلوجرام، وهو الاكتشاف الأول من نوعه لحوت برمائي آكل لحوم يتغذى على الثدييات الأخرى. يقول جوهر لموقع إنسايدر: "اكتشفنا أن هذه الحيتان كانت لديها فكوك قوية ومميتة ورهيبة، وقادرة على تمزيق مجموعة متنوعة من الفرائس … كان هذا الحوت بمثابة ملك الموت بالنسبة لمعظم الحيوانات التي عاشت في المنطقة".
استغرقنا وقتا: عثر الفريق على البقايا لأول مرة منذ 13 عاما، لكن لم يبدأ العمل على تحليلها سوى بعد عام 2017، بحسب ما يؤكده محمد سامح لمجلة "للعلم"، وهو مسؤول بوزارة البيئة وأحد المشاركين في الدراسة.
ليست أول حيتان تمشي في مصر: تنقسم الحيتان في تطورها من الحياة على اليابسة إلى البحر لخمس عائلات، وينتمي حوت أنوبيس إلى العائلة الرابعة المسماة بروتوستيدي. ومنذ أكثر من قرن، اكتشف عالم الحفريات الألماني إيبرهارد فراس حوتا ينتمي إلى العائلة نفسها في مصر، بعد أن عثر على جمجمة غريبة وبعض الفقرات بالقرب من القاهرة.
لكن.. ما الذي تفعله حفريات الحيتان في الصحراء؟ رغم أن المنطقة صحراوية الآن، فإنها كانت قديما مغطاة بمساحة شاسعة من المياه اسمها بحر تيثس، وهي منطقة غنية بالحفريات حاليا. وسبق أن عثر الباحثون في المنطقة على مجموعة تتراوح بين "الحيتان شبه المائية التي تشبه التماسيح، والحيتان العملاقة المائية بالكامل"، والتي عاشت في العصر الإيوسيني (حقبة استمرت من 34 إلى 56 مليون عام مضت).
الصحراء الغربية مثلا واحدة من أكثر المناطق على وجه الأرض الغنية بحفريات الحيتان. وادي الحيتان في الصحراء الغربية مدرج على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) كموطن لأقدم أنواع الحيتان في العالم، وفق ناشيونال جيوجرافيك. وهو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن العثور فيه على حيتان عصور ما قبل التاريخ في بيئتها الجيولوجية والجغرافية الأصلية. واكتشف الباحثون خلال العقود الماضية بقايا أكثر من ألف حوت، ومن المتوقع العثور على عدد لا يحصى من الحيتان.
منصوراسوروس اكتُشف في المنطقة نفسها: كان مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية وراء هذا الاكتشاف الرائد أيضا في عام 2018، حين عثروا على الديناصور منصوراسوروس في الواحات الداخلة بالصحراء الغربية. وعُثر في المكان نفسه أيضا على نوع آخر من الحيتان عاش في عصور ما قبل التاريخ، هو حوت الريان.
من اليابسة إلى البحر: امتلاكها لأربع أرجل يعني أن الحيتان كانت قديما كائنات برمائية، وأنها اعتادت السير على اليابسة إلى جانب السباحة في البحر، وهي المرحلة الوسطى في تطور هذه الكائنات من آكلات عشب تشبه الغزلان إلى الثدييات العملاقة ساكنة المياه التي نألفها اليوم.
منعطف تطوري: تنتمي الحيتان إلى قائمة قصيرة للغاية من الثدييات التي قادها تطورها للعودة إلى البحر مجددا. فقد عاشت الأسلاف المشتركة للحيتان منذ 360 مليون عام تقريبا في البحر، ثم تطورت بحيث يكون باستطاعتها الحياة خارج المياه أيضا، عن طريق تحسين كفاءة رئتيها وتحويل زعانفها إلى أرجل. لكنها اتخذت بعد ذلك "منعطفا تطوريا" كما تسميه مجلة ناشيونال جيوجرافيك، وتكيفت أجسادها مع المياه، مما سمح لها بالحركة والأكل والتزاوج تحت البحر. وتشير المجلة إلى أن كيفية وقوع هذا التحول الهائل حيرت حتى أعظم العلماء، واصفة تلك الكائنات بأنها واحدة من أكبر التحديات التي تواجه نظرية داروين للتطور.
لا يزال تطور الحيتان في أفريقيا مجهولا إلى حد كبير، لكن مثل هذا الاكتشاف الأخير يمكن أن يفسر لنا بعض التغيرات التطورية التي خاضتها الحيتان البرمائية لتصير كائنات بحرية تماما، وبالتالي ملء بعض الثغرات في فهمنا لعودة الحيتان من اليابسة إلى الماء.