الحكاية تبدأ براعي ماعز فضولي: تاريخ القهوة
نقدم لك تاريخ أفضل صديق لك في الصباح: القهوة، ثاني أكثر السلع تداولًا على وجه الأرض، هي دون شك عنصر أساسي في الحياة البشرية الحديثة. شكلت تلك الحبة البنية الصغيرة كل شيء، بدءا من متى وكيف وأين نتواصل اجتماعيا وحتى مدى فعالية قدرتنا على ضبط أدمغتنا كل صباح بينما نستعد ليوم عمل جديد. يرتبط تاريخ القهوة بالصدفة والصراعات وتغير حالة الوعي. وبينما يصعب الاتفاق على التفاصيل الدقيقة التي أدت إلى هيمنة هذا النوع الغريب من الفواكه على الحضارة الحديثة، فإن هناك بعض الأحداث الرئيسية التي يمكن أن تعطينا فكرة أفضل عن كيفية تشكل هذه الظاهرة الثقافية والاقتصادية.
قبل أي شيء.. ما هي القهوة؟ سواء كنت تشربها في المج الخاص بك أو في كوب عادي، تحبها بالحليب والسكر أو دونهما، فكل هذا يأتي من تخمير بذور نبات البن المحمصة. توجد هذه البذور المعروفة باسم البن داخل ثمار حمراء تشبه التوت وتنمو على أشجار البن، وتحتوي على معظم مادة الكافيين الموجودة فيها. لا تصلح أشجار البن للنمو في المنطقة الجنوبية الغربية من البحر الأحمر.
هناك حاليا ثلاثة أنواع سائدة تنمو في أنحاء العالم: البن العربي، وبن الروبوستا، وبن الليبيريكا. البن العربي تعود أصوله إلى إثيوبيا، ويزرع الآن في أمريكا الوسطى وأجزاء مختلفة من أفريقيا، وهو الأكثر شعبية، وتكون حبوبه عالية الجودة. أما بن الروبوستا فأقل مذاقا، لكن المحصول يكون أكبر، ويزرع بشكل أساسي في إندونيسيا والهند.
معظم الروايات التي تحكي تاريخ القهوة تعود بأصولها إلى راعي ماعز فضولي في إثيوبيا. الحكاية الأكثر انتشارا تقول إن راعيا في القرن التاسع لاحظ أن ماعزه تتصرف بشكل غريب حين ترعى في مناطق بها نوع غير معروف من التوت. جرب الرجل تلك الثمار بنفسه، وسرعان ما اكتشف أنها أحدثت تأثيرا منشطا أدى إلى تأخير وقت نومه المعتاد. وهكذا، بحسب القصة، صار الإثيوبيون يتناولون القهوة مخلوطة مع الفاصوليا والدهون الحيوانية لاكتساب الطاقة، وهي طريقة بعيدة كل البعد عن الشكل الذي نتناول به القهوة في الوقت الحالي: تحميصها، وتخميرها، وتقديمها كمشروب. لا نعرف بالضبط كيف اكتشف البشر تحميص القهوة وتخميرها، لكن هذا حدث غالبا بالتجربة.
الدين سبب وصولها إلينا: انتظر الشرق الأوسط حتى القرن الرابع عشر من أجل القهوة، حين بدأ المتصوفون في اليمن يزرعون البن بشكل منتظم، ثم يحمصونها ويخمرونها بالماء، لتساعدهم على قضاء ساعات طويلة في الصلاة والممارسات الروحانية. وهناك روايات تقول إن آثار القهوة لاحظها متصوف يمني في الوقت نفسه الذي اكتشفها فيه الإثيوبيون. وتحكي تلك الروايات أن الصوفي لاحظ مجموعة من الطيور لديها طاقة زائدة عن المعتاد، وعرف بعدها أنها تتغذى على ثمار تشبه التوت الأحمر. وحين جربها، وجد أنه كذلك يشعر بالطاقة في جسده.
شهد القرن الخامس عشر انطلاقة القهوة، التي شقت طريقها إلى القاهرة ومكة عبر ميناء المخاء اليمني. اقتصر تناول ذلك المشروب في البداية على الدوائر الدينية المتخصصة في القاهرة، لكنه سرعان ما انتشر عبر التجار إلى بقية المناطق التي كانت تسيطر عليها الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت. وفي النهاية وصلت إلى أوروبا ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو ما تشير بعض الروايات إلى أنه حصل من خلال التجارة مع العثمانيين، بينما تشير روايات أخرى إلى أنهم سرقوا البذور.
وصلت تجارة القهوة الأوروبية إلى ذروتها بنهاية القرن السادس عشر، حين بدأت هولندا، ومن بعدها فرنسا وإسبانيا والبرتغال، في زراعة البن في أراضي المستعمرات بشرق آسيا والبحر الكاريبي والبرازيل.
جدل مبكر: بعد فترة وجيزة من ظهورها في عواصم الشرق الأوسط، ظهرت ثقافة المقاهي، التي اجتذبت الرجال للتجمع والحديث في السياسة ولعب الطاولة وإلقاء الشعر. شكلت هذه الأماكن العامة أساسا للحياة الاجتماعية المتجددة، والتي أثارت في النهاية حفيظة السلطات خشية أن تصبح أرضا خصبة للاضطرابات الاجتماعية.
أثار الأمر السلطات الدينية أيضا، التي وصل بها الحال إلى مقارنة المقاهي بأماكن شرب النبيذ في أوروبا، وذلك لافتراض أن لها تأثير مسكر. تسبب هذا في عدة محاولات للسيطرة على توزيع القهوة، لكنها باءت بالفشل جميعا.
أثار هذا استياء الأوروبيين كذلك: أدى الخوف من المشاعر الثورية التي تضطرب بها المقاهي في إنجلترا، بحسب القصص المنتشرة، إلى شجب الملك تشارلز الثاني للمقاهي عام 1675، باعتبارها "أماكن يلتقي فيها أعداء التاج، وينشرون فضائح تخص سلوك جلالته ووزرائه". وفي ذلك الوقت، أطلق الوزراء الكاثوليك الذين شككوا في فكرة دخول القهوة إلى المجتمع الأوروبي، عليها اسم "مشروب الشيطان" لفترة.
تجارة القهوة في العصر الحديث: تشير التقديرات إلى استهلاك أكثر من ملياري فنجان قهوة يوميا على مستوى العالم، وما يصل إلى 550 مليار فنجان في العام. ويعد البن حاليا ثاني أكثر السلع تداولا في العالم بعد النفط، وتصل إيرادات تصديرها فقط إلى 20 مليار دولار، ويرتفع هذا الرقم إلى 100 مليار دولار عند حساب المكونات الأخرى لسلسلة التوريد. وتعد البرازيل وفيتنام وكولومبيا أكبر منتجي البن في العالم، بينما تتربع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا على قائمة أكبر مستورديها.
لكن المستقبل غامض: هناك عوامل مثل عدم استقرار الطقس بسبب تغير المناخ، والطلب المتزايد على حبوب البن، وانتشار نوع من الأمراض الفطرية المعروفة باسم صدأ البن، وكلها تضع التجارة العالمية تحت ضغط. وتشير بعض التقديرات إلى أن نحو نصف الأراضي المستخدمة لزراعة البن عالي الجودة ستتوقف عن الإنتاج بحلول عام 2050. ورغم أن بعض الشركات تتعاون مع المزارعين لتكييف المحاصيل مع تحديات تغير المناخ، فإنه من الممكن أن تتحول القهوة قريبا إلى رفاهية غير متاحة لكثيرين عبر العالم.