الجهات التنظيمية في حيرة من أمرها: التمويل اللا مركزي (الجزء الثاني)
أمس ألقينا نظرة على انتشار ما يسمى بالتمويل غير المركزي والذي يهدد بإحداث ثورة جديدة في النظام المالي العالمي. ولكن في ظل هذا النظام الذي لا يحتاج إلى وسطاء لإتمام المعاملات، وفي ظل عدم وجود تشريعات محددة تنظم تلك المعاملات، ما هي مقترحات الجهات التنظيمية لوضع إطار حاكم لهذا المجال الجديد نسبيا؟
تذكير سريع: التمويل غير المركزي هو مصطلح جامع يضم العديد من التطبيقات المالية في مجال العملات المشفرة (وبشكل أساسي العملات المستقرة "stablecoins")، وهي تطبيقات موجهة بالأساس نحو إنهاء دور الوسطاء الماليين وتسهيل المعاملات بين الأفراد دون وسيط. سلاسل الكتل أو البلوك تشين للعملات المشفرة – وخاصة عملة الإيثيريوم – تستخدم من جانب تطبيقات التمويل غير المركزي لإنشاء "العقود الذكية"، والتي يمكن من خلالها للمستخدمين إجراء معاملات مالية مثل الإقراض، والاقتراض، والتداول، بعيدا عن المؤسسات المالية التقليدية مثل البنوك وشركات الوساطة المالية والبورصات المركزية.
ويبدو ذلك كابوسا للجهات التنظيمية حول العالم، وهو بالفعل كذلك. القواعد الحاكمة لأنشطة العملات المشفرة تنطبق أيضا على التمويل اللا مركزي، ولكن ذلك غير كاف، لأن التنظيم الحالي يفترض وجود وسطاء يمكن محاسبتهم وضمان إشرافهم على تلك المعاملات، وهو ما لا ينطبق على التمويل اللا مركزي لفئات الأصول الرقمية التي تجري دون وسطاء. إذًا ما الذي يخطط المنظمون لفعله حيال ذلك؟
نشر المنتدى الاقتصادي العالمي هذا الشهر دليل سياسات خاصة بالتمويل اللا مركزي (بي دي إف)، في محاولة للمساعدة على وضع إطار تنظيمي لأسواق الأصول الرقمية وتوجيه قرارات صناع السياسات المالية. وألقى التقرير الضوء على عدد من المشاكل التي يمكن أن تمنع الجهات التنظيمية من الإشراف على القطاع.
أولا حوكمة العملات والرموز: العديد من منصات التمويل اللا مركزي تمنح حقوق تصويت على قرارات معينة تتعلق بكيفية حوكمة العملة. وبصفتها منظمات مستقلة غير خاضعة للتنظيم، لا يوجد لدى هذا النوع من التمويل إدارة مركزية تدير العمليات على أساس يومي. ويحتاج المنظمون إلى تحديد ما إذا كانوا سيعاملون هذه الأنشطة، كأدوات استثمار، أو كأدوات حوكمة، وكيفية فرض الضرائب عليها وإدارتها وفقا لذلك.
ثانيا: مصدرو التمويل اللا مركزي: تنشئ خدمات التمويل اللا مركزي عادة من خلال عملية تعاونية، عادة ما تتضمن مجموعة من مطوري البروتوكولات أو مجموعة تطوير مفتوحة المصدر، الذي ينشئون منصاتهم على قاعدة الأكواد الخاصة ببعضهم البعض. وبعد ذلك يمكن تشغيل الخدمة بشكل آلي إلى حد كبير من خلال البروتوكول والعقود الذكية. وهذا يطرح السؤال، في أي مرحلة ستفرض الجهات التنظيمية قيودا؟ وعلى من؟ ويرفض المطورون أيضا تنظيم عملية برمجة الأكواد، لأنهم يعتبرون البرمجيات مفتوحة المصدر نوع من أنواع أشكال حرية التعبير التي يجب حمايتها.
نطاق التداول: يتيح التمويل اللا مركزي خدمات أكثر تنوعا من العملات المشفرة التقليدية، تشمل التأمين والائتمان، وحسابات التوفير. قد يكون المنظمون أكثر ميلا للتحرك ضد التمويل اللا مركزي إذا بدأت في جذب المستخدمين بعيدا عن أشكال التمويل التقليدية، ومنافسة البنوك والبورصات التقليدية.
بعض البلدان بدأت بالفعل ملاحقة التمويل اللا مركزي: أعلنت هيئة تنظيم الأوراق المالية والبورصات في تايلاند هذا الشهر بأن أي أنشطة تتعلق بالتمويل اللا مركزي قد تحتاج إلى ترخيص من الجهات التنظيمية المالية "في المستقبل القريب". وجاء ذلك في أعقاب إطلاق أول منصة تمويلية هناك وهي توك توك فاينانس، والتي تديرها بورصة العملات المشفرة التايلاندية بيتكوب. وفي تلك الأثناء، كان الرمز المميز الخاص بالمنصة والمسمى "توك"، والتي ارتفعت على الفور إلى "عدة مئات من الدولارات"، ثم انخفض إلى نحو دولار واحد فقط في غضون دقائق، مما يوضح أن تقلبات التمويل اللا مركزي أغرت المستثمرين وأخافت الجهات التنظيمية.
ويحدث ذلك أيضا في الوقت الذي تحاول فيه الجهات التنظيمية تضييق الخناق على العملات المشفرة: الكثير من الدول، خاصة في الأسواق الناشئة، ومنها تركيا وغانا ومصر وبوليفيا، والجزائر، وفيتنام تمنع تداول وتعدين العملات المشفرة بصورة أو بأخرى. والهند أيضا قد تسير على نفس النهج، إذ تعد تشريعا يهدف إلى منع سوق العملات المشفرة في البلاد. وفي الصين، أظهرت الحكومة عزمها الشديد على منع العملات المشفرة – منها مؤخرا المؤسسات المالية وشركات المدفوعات – من التعامل في العملات المشفرة أو تقديم خدمات لهذا القطاع، وأغلقت نصف مناجم تعدين البتكوين على الأقل، والموجودة على أرض الصين.
إذا ما الذي قد يحدث للتمويل اللا مركزي؟ يمكن للحكومات أن تنشر مجموعة من الإجراءات التنظيمية لإدارة التمويل اللا مركزي، بما ذلك تصميم أنواع جديدة من التراخيص، أو إصدار إرشادات أو توقعات، أو فرض تدابير مانعة في القطاع. ويمكن للجهات التنظيمية أيضا التفكير في نموذج "اشتراك"، حيث يمكن لمنصات التمويل اللا مركزي أن تقرر طوعا الامتثال للوائح التنظيمية مقابل بعض الحماية. وما لا يريده منشئو خدمات التمويل اللا مركزي هو أن تقرر الحكومات من تلقاء نفسها القواعد المستخدمة لتنظيم تطبيقات التمويل اللا مركزي، وبالتالي إجبارهم على تدابير من شأنها أن تجرد التمويل اللا مركزي من مميزاته الأساسية.
وفي النهاية، الحداثة النسبية لهذا النشاط، تعني ضرورة أن يظل قابلا للتكيف: لم تكن هناك عملات رقمية لا مركزية قبل عام 2009، ولم تكن هناك منصات للعقود الذكية قبل عام 2015، لذا فإن أي توصيات بشأن التعامل المناسب مع نشاط جديد مثل التمويل اللا مركزي يجب أن يأخذ في اعتباره التطورات التي لا يمكن التنبؤ بها في هذا الفضاء الذي يتطور بسرعة، حسب ما خلص إليه تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي.