منظومة تسجيل العقارات والأراضي ليست مانعًا للتوسع بأنظمة التمويل العقاري في مصر
أوضحنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة أن أية مبادرة جادة للتغلب على مشكلات الحياة اليومية في القاهرة، ينبغي أن تبدأ باستحداث الإطار القانوني لمنظومة الإسكان المتوسط، بما يضمن إتاحة التمويل الملائم للشريحة العظمي من المواطنين. تلك الشريحة التي تحاصرها نظرات الاستغراب والتفحص من ناحية، والردود المرتبكة أو المتذمرة من ناحية أخرى، لو أنها طلبت من أحد البنوك الاستعلام عن أنظمة التمويل العقاري لمدة 20 أو 30 عامًا.
ليست هناك ثمة معوقات رقابية أو تنظيمية تحول دون تقديم أنظمة التمويل العقاري لمختلف شرائح المجتمع، حسبما يؤكد الخبراء، نظرًا لسن التشريع الجديد وإقراره من جانب مجلس النواب ونشرت بالفعل لائحته التنفيذية في الجريدة الرسمية. ولكن المشكلة كما يزعم الكثيرون، تكمن في حالة التخمة التي يعاني منها نظام تسجيل ملكية الأراضي والعقارات في مصر، والتي تتجلى في كثرة العقارات السكنية غير المسجلة وكذلك وجود الكثير من العقارات التي تكون ملكيتها محلاً لنزاع قانوني وبالتالي لا تعتبر آمنة بالنسبة لأنظمة التمويل العقاري التي تقدمها البنوك.
قد يكون ذلك صحيحًا إلى حد ما، ولكننا ندرك من واقع تجربتنا في قطاع التطوير العقاري، وعلاقتنا بأبرز خبراء القطاع المصرفي، أن الأمر لا يتعلق بالقصور الراهن في عملية تسجيل الملكية. من المرجح طبعًا أن تحجم البنوك عن إقراضك لشراء شقة أو فيلا لو أن البائع ليس ذي صفة قانونية، ولكن هذا لا يمنع أن مشكلة التسجيل قابلة للحل في جوهرها، كما أن هناك بالفعل آلاف الوحدات العقارية، سواء القائمة أو التي يجري تشييدها حاليًا، التي تخلو من أية مشكلات خاصة بعملية تسجيل الملكية.
الأدلة على ذلك كثيرة، ولعل أبرزها إعلان البنك المركزي مؤخرًا عن توفير 10 مليارات جنيه، وتخصيصها لتقديم حلول التمويل العقاري لمحدودي الدخل من خلال القطاع المصرفي، بشرط ألا يتجاوز الدخل الشهري للعائلة 8 آلاف جنيه وأن يبلغ الحد الأقصى لقيمة التمويل المطلوب 300 ألف جنيه. كم من الوقت استغرق في رأيك حتى تم نفاد ذلك المبلغ الكبير؟ عامين؟ سنة واحدة؟ 6 أشهر؟
ما بالك بأقل من أسبوع؟
لا يمكن إذاً التعلل بنقص الوحدات العقارية المطابقة لاشتراطات أنظمة التمويل العقاري طالما أن حزمة مالية بقيمة 10 مليار جنيه تم توظيفها بالكامل في أقل من 7 أيام، فهذا يعني أن المشكلة تكمن في ندرة التمويل المتاح وارتفاع تكلفة الحصول عليه، ولا سيما في ضوء اتجاه البنك المركزي إلى تقديم تلك الأموال للبنوك في صورة قروض طويلة الأجل بفائدة مدعمة 4% فقط، وهو ما أتاح بدوره للبنوك إمكانية إعادة الإقراض بمعدل فائدة يتراوح بين 8 و9%.
ما يعنيه ذلك في إطار المقومات الكلية للمشهد الاقتصادي المصري أن تكلفة التمويل العقاري باهظة جدًا بالنسبة لغالبية المواطنين. افترض مثلاً أنك ترغب في شراء شقة بمدينة الشروق يبلغ ثمنها حوالي مليون جنيه، قد يبدو الثمن ملائمًا، ولكن تمويل هذه الشقة على مدة 20 سنة سيكلفك وفقاً لأسعار اليوم نحو 10 آلاف جنيه شهريًا لسداد الأقساط، وهو ما يعادل 2.4 مليون جنيه في نهاية فترة السداد، أي أكثر من ضعف القيمة الحالية، وبالتالي يفقد السعر جاذبيته.
لا جدوى من توجيه اللوم إلى البنوك، فهي كيانات اقتصادية تتأثر بحساسية الأسعار شأنها شأن شركات التطوير العقاري، وكذلك مشتري العقارات السكنية. الوظيفة الرئيسية للبنوك تتمثل في تلقي ودائع العملاء، بينما تحقق الربح من خلال إعادة إقراض الأموال المودعة لديها مقابل العائد الملائم، والذي يتعدى في جميع الأحوال معدل الفائدة التي يحصل عليها العميل صاحب الأموال المودعة بالبنك. المشكلة إذاً تتبلور في تكلفة التمويل، ونعني بذلك التكلفة التي يتحملها البنك لاجتذاب ودائع العملاء من أجل إعادة إقراضها في السوق على هيئة منتجات تمويل عقاري أو قروض رأسمالية أو قروض سيارات، وغيرها.
ليس من المعقول أن تتوقع من أحد إيداع فائض السيولة النقدية لديه بالبنك إلا إذا كان معدل العائد يتجاوز 10 أو 11%، بما أن معدلات التضخم مستمرة في تخطي حاجز الأرقام الأحادية. أضف إلى ذلك تكلفة المخاطر التي يتحملها البنك لإعادة إقراض الأموال المودعة لديه، وكذلك هامش الربح الخاص به – وهو ما يعني أن تكلفة التمويل العقاري ستبدأ من 15% بالنسبة للعميل، وهي تكلفة باهظة إلى حد التعجيز لأنها تعني سداد ثمن العقار مرتين ونصف على مدار 20 سنة. الحل الوحيد إذاً هو تزويد البنوك بقروض مدتها 20 سنة بفائدة 3-4% حتى يتسنى لها إعادة إقراض تلك الأموال في صورة تمويل عقاري بفائدة تتراوح بين 7 و8%.
لو أن الأوضاع كانت مختلفة لأصبح السبيل لذلك هو إصدار سندات لمدة 30 عامًا لمساعدة البنوك على تكوين التدفقات المالية الداخلة وفقا لشروط وفترات سداد مطابقة للأموال التي يتم إقراضها. ولكن للأسف لا يشكل اقتراح إصدار سندات مدتها 30 عامًا أمرًا ملائمًا من الناحية الاقتصادية في الوقت الحالي، فمن الذي سيشتري سندات يتراوح عائدها بين 3 و4% لمدة 30 عامًا في حين يتجاوز معدل التضخم حاجز الـ 10%؟ ربما يكمن الحل في إصدار سندات دوارة يتم إعادة تسعيرها كل خمس سنوات، ولكن ذلك قد يؤدي إلى تمرير تأثير التضخم إلى المشتري إذ قد يجد نفسه فجأة مطالبًا بمضاعفة أقساط التمويل العقاري. وليكن في المعلوم أن المرة الأخيرة التي أصدرت فيها الحكومة سندات لأجل 5 سنوات كان معدل العائد عليها 15%، ويعني ذلك ارتفاع فائدة التمويل العقاري إلى نحو 22% عند احتساب هامش أرباح البنك وتكلفة المخاطر. ليس من المعقول طبعًا أن تدفع على التمويل العقاري فائدة مماثلة لبطاقات الائتمان.
ومن المستبعد قطعًا إمكانية إصدار السندات على مستوى المحليات لأن جميع الأموال الداخلة في موازنة الدولة تأتي حصريًا من الحكومة المركزية وبالتالي فإن القاهرة الجديدة أو 6 أكتوبر، أو غيرها من المدن المصرية، لا تتوفر لها إمكانية حشد التمويل اعتمادًا على مواردها الذاتية.
لا خيار إذاً سوى تحرك الحكومة لدعم القطاع المصرفي من أجل توفير القروض التي تساهم في تحقيق المصلحة العليا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، حيث تؤكد تجربة البنك المركزي أن أنظمة التمويل العقاري ستشهد إقبال هائلاً لو تم توفيرها بمعدل فائدة يتراوح بين 8 و9% على الأكثر، ولمدة 20 سنة على سبيل المثال، وهو ما يعني حصول البنوك على تمويل مماثلة من حيث القيمة وفترة السداد، وذلك بتكلفة 4% تقريبًا.
لا أحد يتوقع أن يحدث ذلك تلقائيًا حتى ينخفض التضخم إلى ما دون 7% مع استقرار معدل الفائدة بين 5و6%، ولذلك فإن الحكومة مطالبة باستخدام جزء من الأموال والمدخرات الناتجة عن تقليص فاتورة الدعم وتخصيصها ضمن وعاء تمويلي يهدف إلى إصلاح وتحديث منظومة الإسكان المتوسط وتملك العقارات والمنشآت السكنية.
وهذا الحل بما أنه يصب في مصلحة جميع الأطراف على المدى المنظور والبعيد، بما في ذلك الحكومة، فلا يجدر اعتباره شكلاً من أشكال العمل الخيري، أو استمرارًا لنظام الدعم خلف ستار أو قناع آخر. فمثلما يساهم تخصيص النفقات لدعم شبكات البنية التحتية من أجل تعزيز معدلات النمو وتسهيل حركة الأفراد والبضائع، كذلك يساهم تمويل مشروعات الإسكان في تعزيز النمو الاقتصادي، ولا سيما في القطاع المالي والقطاع العقاري وقطاع الإنشاءات ومواد البناء، وهي كلها قطاعات ذات أهمية محورية بالنسبة لاقتصادنا الوطني.
ويقترح أيضًا إلحاق هذا التمويل ببعض الشروط الموضوعية التي تضمن تحفيز البنوك اقتصاديًا وتنظيميًا لتمويل الوحدات السكنية المطابقة لمعايير ومواصفات التخطيط الملائمة والتي تواكب التطلعات والرؤية المصرية لاستعادة تألق القاهرة.
المزيد حول النقطة الأخيرة في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.