معاناة الحياة اليومية في القاهرة .. هل من حل في الأفق؟
هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة تتكون من خمسة أجزاء ننقل فيها للقارئ وجهة نظر عملية حول كيف يمكن أن يتعاون قطاع الأعمال مع الحكومة لاستعادة رونق القاهرة، وهي مهمة من شأنها تحسين حياة 20 مليون مواطن وتحقيق أرباح هائلة في الوقت نفسه.
القاهرة مدينة قاسية لن تقع في حبها بسهولة، فهي لا توفر لقاطنيها أبسط سبل الحياة اليسيرة حيث يستغرق المواطن العادي نحو أربع ساعات يوميًا للذهاب إلى عمله والعودة منه أو لأداء بعض المهام البسيطة. وإذا لم تكن من القلة الأوفر حظًا التي تستمتع بحياتها داخل أسوار أحد المجمعات السكانية المغلقة، فإن الاستمتاع بالأماكن العامة ليس إلا حلمًا بعيد المنال. باختصار، أصبحت العواقب الصحية والنفسية للحياة في القاهرة لا تخفى على أحد، فهي واقع نعيشه وتحدث عنه ووثقه الكثيرون.
لم يكن ذلك حال القاهرة منذ زمن قريب؛ فلا يزال آباؤنا وأجدادنا يتغنون بجمال القاهرة القديمة ويروون لنا قصصًا عن زمنهم الجميل حين كان بإمكانهم التوجه إلى الجامعة سيرًا على الأقدام، والاستمتاع برحلة هادئة على متن الحافلة حيث تتوفر المقاعد الشاغرة، وقضاء أوقات ممتعة في أماكن عامة نظيفة ومبهجة، ويفتخرون بأن القاهرة كانت تُلقب بـ «باريس الشرق». ماذا حدث إذن؟
لقد مرت القاهرة بنقطة تحول جوهرية في تاريخها؛ حيث ارتفع عدد السكان ارتفاعًا هائلًا وتغيرت طبيعتهم ولم تستطع المدينة المسكينة التكيف مع هذا التغير. فقد أخذ المصريون يتدفقون على العاصمة من كافة محافظات الجمهورية في موجات جامحة من الهجرة الداخلية، وأصبح معدل النمو السكاني يصل إلى أرقام غير مسبوقة.
القاهرة اليوم تقف على مفترق الطرق: إما تغير اتجاهها وتسلك المسار الصحيح حيث يمكننا استعادة بريق واحدة من أجمل مدن العالم، أو تستمر على هذا المنوال وتفوت كل فرصة لتحقيق تنمية حقيقية.
هذا التغيير المنشود لا يزال في متناول أيدينا، ولكننا نتحدث هنا عن التغيير الحقيقي والجوهري الذي ينعكس على حياة ملايين الأشخاص من سكان القاهرة من جميع الفئات والطبقات، الغنى منها ومتوسط الدخل وكذلك المهمشين أو كما يطلق عليهم «سكان العشوائيات». نعم، ثمة سيناريوهات سوداوية تلوح في الأفق، لكن ليس هناك ما يحتم أن تصبح واقعًا نعيشه؛ فهناك ثلاثة مفاتيح سحرية يملكها ثلاث: الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المالي، وباجتماعهم يمكن فتح أبواب واسعة لمستقبل مختلف كليًا.
وهذا المقال هو الحلقة الأولى من سلسلة من خمسة مقالات تتناول كيف يمكن لهذه الأطراف أن تلعب دورًا حيويًا في إعادة بناء العاصمة وإعادة رسم ملامحها من جديد، كل ما نحتاج إليه فقط هو التواصل وأن نلقي تجارب الماضي وراء ظهورنا ونبدأ عهدًا جديدًا من التعاون والعمل البناء.
كيف وصل الحال إلى ما هو عليه الآن!
كما هو الحال مع معظم المشكلات الاقتصادية التي تؤرق بلدنا اليوم، من السهل أن نلقي باللوم على أخطاء الحقبة الناصرية، وهناك بعض الحقيقة في هذا الأمر؛ فسياسات عبد الناصر الزراعية – إعادة توزيع الأراضي الزراعية ومنح كل أسرة ريفية فدانًا من الأرض لزراعته – أطلقت شرارة نمو سكاني كبير أدى في نهاية المطاف إلى موجات من الهجرة الداخلية إلى القاهرة. كما أن ارتفاع الحوالات النقدية في عصر السادات صاحبه بناء ما يقرب من 80% من المساكن الجديدة في المناطق غير الخاضعة لتخطيط الدولة نظرًا لغياب السياسات الواضحة والفعالة للتكيف مع تلك الزيادة السكانية. وبالطبع تمخض عن ذلك النتيجة التي نراها اليوم: ظهور وانتشار العشوائيات، أو كما يفضل الأكاديميون وصفها «مناطق الإسكان الشعبي»، حيث أن ازدهار الاقتصاد التأجيري دفع المواطنين إلى استثمار ما يقرب من خمسي الاستثمارات الخاصة في قطاع العقارات والإنشاءات في بداية هذا القرن، وذلك وفقًا للأبحاث التي أجراها الباحث ديفيد سيمز.
ومع تزايد ازدحام العاصمة، قام مسئولو التخطيط العمراني في الثمانينيات بوضع خطة تطوير لا تزال تتصدر المشهد حتى اليوم، تتمثل أركانها في تحويل القاهرة إلى القلب العمراني لمصر وإحاطتها بالمدن التابعة: مثل السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان و15 مايو، وكذلك القاهرة الجديدة والعبور وبدر وغيرها، ثم نقل ضواحي الإسكان الشعبي إلى تلك المدن التابعة، وكذلك نقل بعض الصناعات التقليدية، وسيساعد إنشاء الطرق السريعة الجديدة على تقليص الزحام.
ولا يخفى على أحد أن تلك الفكرة لم تحقق النتائج أو النجاحات المنشودة، إذ أن معدل النمو السكاني في مصر كان يصل إلى 4% سنويًا على مدار معظم السنوات التي تخللت الفترة بين وضع الفكرة وتنفيذها، وفي حين أن مساحة القاهرة الكبرى قد تضاعفت أربع مرات تقريبًا منذ عام 1980، غير أن الثمان مدن الجديدة لم تجذب سوى ما يتراوح بين 3% و27% من كثافتها السكانية المستهدفة.
والنتيجة أن أصبحت العاصمة عبارة عن مجموعة من الضواحي منخفضة الكثافة السكانية، تتخللها العشوائيات المكتظة، ويحيط بها ما يقرب من 80 مجمع سكني مغلق؛ أي أن المساكن الشعبية أصبحت بمثابة حلقات تزداد كثافتها لتخنق قلب العاصمة العمراني الذي يعيش فيه 85% تقريبًا من القاهريين.
والمؤسف أن تلك السياسات لم تخضع للمراجعة قط، بل إن هيئة المجتمعات العمرانية لا تزال تتبع نفس السياسات وتتبنى نفس الاستراتيجيات، وليس ذلك عن تقصير منها وإنما يرجع في المقام الأول إلى أنها ليس لها سلطة على السياسات والوسائل الاقتصادية الضرورية لفرض حلول جذرية للمشكلة.
هل من حل يلوح في الأفق؟
أصبح المسئولون عن التخطيط العمراني يدركون الآن أن زمن فكرة المدن التابعة التي ينتقل سكانها يوميًا للعمل في المدن الكبرى قد ولى، وأن الحل الأمثل هو المجتمعات المتكاملة التي يعمل بها سكانها ويقيمون فيها أيضًا. والسبب وراء هذا بسيط للغاية، وهو أن كل شخص يود أن يسكن بالقرب من مكان العمل ومدارس الأبناء والأماكن الترفيهية التي يرتادها مع عائلته؛ أي أساسيات الحياة خارج المنزل. هذا الأمر يدركه أي شخص فكر في الانتقال إلى القاهرة الجديدة في تسعينيات القرن العشرين أو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إذًا ما السبيل إلى حل هذه الأزمة؟ في الواقع هناك حلول لهذه النوعية من المشكلات قابلة للتطبيق في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، ومنها على سبيل المثال استحداث الحلول والهياكل المالية المتعارف عليها في الدول المتقدمة مثل إنشاء سوق ثانوي للرهن العقاري. ومن جهة أخرى نرى بالعديد من الأسواق الناشئة أن هناك أمثلة كثيرة لقدرة سياسات الإسكان المتكاملة على التطور والتحسن شريطة الانتقال من أسلوب كمي (فقط إنشاء مئات الآلاف من الوحدات السكنية) إلى أسلوب كيفي (ترويج وتشجيع مشروعات الإسكان في المناطق التي يرغب المواطنين في العيش والعمل بها).
المشكلة في عملية بناء المدن أنها تتضمن مقومات عديدة يجب أن تجتمع في آن واحد؛ مقومات اجتماعية واقتصادية ومادية. علينا أن نضع نصب أعيننا على ما هو أبعد من الجانب المادي فقط لأن الأخير ليس علاجًا شاملاً لكافة أعراض العلة التي نعاني منها.
وبعد أن تناولنا أبعاد المشكلة، نطرح السؤال الجوهري: ما الذي نحتاج إليه؟
- أن ندرك أن سوق الإسكان غير الرسمي هو المسئول عن وتيرة التطوير في القاهرة، وأي حل ينبغي أن يبدأ من هذا القطاع.
- أن تتولى الحكومة زمام القيادة، حيث إننا نحتاج إلى نهج جديد لصناعة السياسات تحركه البيانات ومصدر معلوماته الرئيسي هو الوضع على أرض الواقع.
- أن يلقى القطاع الخاص ترحيبًا بدوره كجزء من هذا الحل، بدءًا من المطورين الذين يجب إشراكهم في الحوار حول نموذج التطوير الجديد لمنطقة القاهرة الكبرى، وصولًا إلى البنوك التي يمكنها المساهمة في دعم وتمويل عملية التطوير.
- أن تلتقي جميع الأطراف المعنية وتبدأ حوارًا جادًا حول رؤيتها لمدينة القاهرة في عام 2050 من شأنها تكثيف الرقعة السكانية بالمجتمعات الصحراوية، وتقليل كثافة الأحياء الشعبية، وإعادة رسم وتحديد ملامح الضواحي المختلفة، والتأكد من أن يظل المركز العمراني للقاهرة هو قلب العاصمة.
تابعوا باقي أجزاء هذه السلسلة على مدار الأسابيع المقبلة للاستفاضة في مناقشة كل نقطة من هذه النقاط.