تداعيات التباطؤ الصيني على اقتصادات الشرق الأوسط: رب ضارة نافعة
لا يخفى على المتابع الجيد أن بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استفادت كثيرًا من نمو الاقتصاد الصيني طوال العقدين الماضيين. فقد أبقى طلب الطاقة على ارتفاع أسعار النفط، وكان ارتفاع معدل الادخار في الصين أمرًا هامًا – شأنه شأن اتجاه مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي إلى خفض تكلفة الاقتراض عالميًا. ناهيك عن أن المصانع الصينية أمدت أسواق المنطقة بالسلع المنزلية الرخيصة وكذلك السلع الكمالية المتميزة بأسعارها المعقولة مثل الهواتف الذكية.
ولكن النمو الذي حققته الصين لم يكن نموًا متوازنا، إذ يظهر من جانب أن انخفاض قيمة العملة وتباطؤ نمو الأجور وانخفاض الفائدة كانت بمثابة ركائز أساسية لطفرة اقتصادية يقودها النشاط الاستثماري – الأمر الذي خلق عشرات الملايين من فرص العمل وأخرج مئات الملايين من دائرة الفقر (وفي ذلك دروس يمكن أن تتعلم منها مصر). ولكن من الجانب الآخر يظهر أن الصين تمادت في رفع طاقتها الاستثمارية، ولا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة، والنتيجة أن ثمة مخاوف حقيقية تتجلى من إمكانية حدوث تباطؤ حاد بالاقتصاد الصيني، والحقيقة أن اقتصادات الشرق الأوسط ليست بمنأى عن تبعات ذلك التباطؤ المحتمل.
التدفقات الرأسمالية الخارجة من الصين تستنزف السيولة من الأسواق العالمية، وهو ما ينعكس في ارتفاع أسعار الفائدة واحتدام تقلبات الأسعار. وهناك أيضًا تراجع الطلب على السلع الأولية، وهو ما اقتصر في بادئ الأمر على النحاس والحديد وغيرها من السلع الصلبة، وامتد تأثيره إلى النفط والغاز حاليًا. والمصانع الصينية تمضي في إغراق السوق العالمية بمنتجاتها. في الوقت ذاته أظهرت نتائج أعمال الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) للربع الأخير من 2015 أن نشاط المعادن تكبد خسائر قدرها 1.1 مليار ريال سعودي (293 مليون دولار)، علاوة على أن التضخم المنخفض الذي شهدناه عالميًا لسنوات مهدد الآن بالتحول إلى انكماش.
الاقتصاد الصيني حاليا يستعيد توازنه، وهذا يعنى مزيدًا من النمو الهامشي. غير أن نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 3% فقط هو أمر لا يستدعي القلق. فالاحتمال الأكثر واقعية فيما يخص ثاني أكبر اقتصاد في العالم، هو أن يسجل نموًا دون نسبة الـ 5%، وهو يعمل على استعادة توازنه، بدلا من أن تقوم السلطات الصينية بضخ المزيد والمزيد من حزم التحفيز الاقتصادي سعيًا لتحقيق نمو الـ 7% المقدس.
يكمن سبب الاضطراب في طبيعة الاستهلاك الصيني. فالنمو الاستثماري القوي الذي دام سنوات يعنى أن الاستهلاك المنزلي يمثل نحو 35% من الناتج المحلى الإجمالي الصيني، وهو نصف المعدلات المسجلة في الولايات المتحدة، وفي مصر بالمناسبة. وعلى هذه الخلفية فإن إعادة التوازن للاقتصاد الصيني يعنى أن الاستهلاك، بدلا من الاستثمار، سيقود النمو الاقتصادي في المستقبل. وإذا ما استمر الاستهلاك الصيني في النمو بأرقام أحادية مرتفعة، فإن هذا سيكون أمرا إيجابيا للصين والاقتصاد العالمي.
هذا التحول نحو الاقتصاد القائم على الاستهلاك يعد أمرًا جيدًا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على المدى البعيد. بالطبع ليست كل السلع سواء في ذلك: فالنفط والغاز سلع استهلاكية تدخل في إنتاج الطاقة. ولكن البتروكيماويات رغم أنها هي الأخرى تعد سلعًا استهلاكية فهناك تحول في تقديرات نموها في ظل ازدهار الصناعات التدويرية.
علاوة على ذلك فإن استعادة الاقتصاد الصيني لتوازنه لا يتبلور فقط في زيادة معدلات الاستهلاك. هناك حقيقة أن الصين تعتمد على الفحم بصورة أولية لتوفير نصف احتياجاتها من الطاقة، ومن ثم أصبح التلوث قضية رئيسية لها أبعادها السياسية، ولذلك فإن التحول الصيني إلى استخدام الوقود النظيف سيصب في مصلحة مصدري الغاز الطبيعي بمنطقة الشرق الأوسط -قطر وعمان وإيران والجزائر، ويحتمل مصر وإسرائيل بمرور الوقت.
في الوقت ذاته، فإن الحكومة الصينية تعزز الطلب على الصادرات الصينية من خلال الاستثمار في الخارج بشكل ضخم. وتستطيع حكومات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الاستفادة من هذه التدفقات الخارجة من الصين في ظل تطلعهم لتمويل استثمارات البنية التحتية في الداخل. وكانت هذه الموضوعات من بين القضايا التي ناقشها الوفد المرافق للرئيس الصيني شي جين بينج خلال زيارته للمنطقة الأسبوع الماضي. غير أن حكومات الشرق الأوسط عليها أن تدرك أن الصين ستوظف عمالة صينية وستستخدم مدخلات صينية في المشاريع الصينية -فالتمويل الصيني هو في النهاية بيزنس لا يعرف العواطف.
مع كل هذا، فاقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست بمنأى عن القوى العالمية. فقد أدى ضعف الطلب الصيني على السلع الاستثمارية للتأثير بشدة على مصدري السلع الأولية، مثل أستراليا، وكذلك مصدري الآلات مثل ألمانيا. كما أن ضعف الطلب الاستثماري يضر ببعض اقتصادات العالم الرئيسية، وهذا له تأثيرات متوقعة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
علاوة على هذا فإن إعادة توازن الاقتصاد الصيني أمر محفوف بالمخاطر. فالشركات الصينية خاصة تلك التابعة للقطاع العام، تعاني من مديونية مرتفعة. والبنوك الصينية بدأت بالفعل تسعير التدهور في جودة الائتمان. وعلى الرغم من أن احتياطيات النقد الأجنبي الصينية ضخمة فهي ليست “غير محدودة”. من المؤكد أن السلطات الصينية تدرس المزيد من التخفيض في قيمة العملة للحفاظ على قدرتها التنافسية رغم التداعيات السلبية على دخول الأسر الصينية والميزانيات العمومية للشركات التي قامت بالاقتراض بالدولار.
وبالتالي فإن المسؤولية تقع على عاتق حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لإعادة التوازن لاقتصاداتها في الوقت ذاته الذي تعيد فيه الصين التوازن لاقتصادها. هذه الإصلاحات يمكن أن تشمل إزالة التشوهات الناتجة عن الدعم: قطر والسعودية وعمان يتبعون النموذج الذي أرسته الإمارات العربية المتحدة في أغسطس 2015، وإن كانت مصر قد فقدت الزخم للقيام بذلك الآن. أما مصدرو النفط فيجب عليهم الاهتمام بأنشطة المصب (التكرير والتوزيع): فتحسن كفاءة الطاقة وتطور منظومة الطاقة المتجددة يعنيان أن تصدير الكيماويات والمنتجات المكررة سيصبح نشاطا أفضل من تصدير خام البترول.
الأهم من ذلك أن حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تواجه الآن فترة يندر فيها رأس المال، ولذلك ينبغي أن يتم حشد رأس المال بفعالية من داخل وخارج المنطقة. الحكومات يجب عليها أن تطور مؤسسات للادخار المحلى، وأن ترفع نسب ملكية الأجانب في الاقتصادات المحلية، وأن تعيد إحياء هياكل تمويل المشروعات، وأن تستفيد من أسواق السندات السيادية مباشرة. حتى أنه يجب على الحكومات أن تعيد النظر في بعض السياسات التي تعد بمثابة المحظورات -مثل تخفيض قيمة العملة في الاقتصادات المتنوعة ومنح حق الإقامة الدائمة للوافدين كسبل لجذب واستبقاء الموارد المالية والبشرية.
إعادة التوازن للصين تمثل خطوة محورية لتحقيق النمو المستدام بالصين وأيضًا بالاقتصاد العالمي. ولكن لا يجب أن تكتفى دول المنطقة بموقع المشاهد في الوقت الذي تتحول فيه الصين إلى اقتصاد خدمي. ينبغي على دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن تعمل على إعادة التوازن لاقتصادها هي الأخرى .